الحنيف المائل عن الأديان الباطلة إلى الدين الحق قال ابن دريد الحنيف العادل عن دين إلى دين و به سميت الحنيفية لأنها مالت عن اليهودية و النصرانية و قيل الحنيف الثابت على الدين المستقيم و الحنيفية الاستقامة على دين إبراهيم و إنما قيل للذي تقبل إحدى قدميه على الأخرى أحنف تفاؤلا بالسلامة كما قيل للمهلكة مفازة تفاؤلا بالفوز و النجاة و هو قول كثير من المفسرين و أهل اللغة و قال الزجاج أصله من الحنف و هو ميل في صدر القدم و سمي الأحنف لحنف كان به و قالت حاضنته و هي ترقصه : و الله لو لا حنف برجله ما كان في صبيانكم كمثله ) و في الحديث أحب الأديان إلى الله تعالى الحنيفية السمحة و هي ملة النبي (صلى الله عليه آله سلّم) لا حرج فيها و لا ضيق .
(( الإعـــــراب ))
جزم تهتدوا على الجواب للأمر و معنى الشرط قائم في الكلمة أي إن تكونوا على هذه الملة تهتدوا فإنما انجزم تهتدوا على الحقيقة بالجزاء و قوله « ملة إبراهيم » في انتصابه وجوه ( أحدها ) أن تقديره بل اتبعوا ملة إبراهيم لأن قولهم « كونوا هودا أو نصارى » تتضمن معنى اتبعوا اليهودية أو النصرانية و تقديره قالوا اتبعوا اليهودية أو النصرانية قل بل اتبعوا ملة إبراهيم فهذا عطف على المعنى ( و الثاني ) أن يكون على الحذف كأنه قيل بل نتبع ملة إبراهيم فالأول عطف و الثاني حذف ( و الثالث ) أن ينتصب على تقدير بل نكون أهل ملة إبراهيم فحذف المضاف و أقيم المضاف إليه مقامه كقوله تعالى و اسئل القرية فهذا عطف على اللفظ و هو قول الكوفيين و حنيفا نصب على الحال أي في حال حنيفيته .
(( النــــزول ))
عن ابن عباس أن عبد الله بن صوريا و كعب بن الأشرف و مالك بن الضيف و جماعة من اليهود و نصارى أهل نجران خاصموا أهل الإسلام كل فرقة تزعم أنها
أحق بدين الله من غيرها فقالت اليهود نبينا موسى أفضل الأنبياء و كتابنا التوراة أفضل الكتب و قالت النصارى نبينا عيسى أفضل الأنبياء و كتابنا الإنجيل أفضل الكتب و كل فريق منهما قالوا للمؤمنين كونوا على ديننا فأنزل الله تعالى هذه الآية و قيل إن ابن صوريا قال لرسول الله (صلى الله عليه آله سلّم) ما الهدى إلا ما نحن عليه فاتبعنا يا محمد تهتد و قالت النصارى مثل ذلك فأنزل الله هذه الآية .
(( المعــــــــنى ))
« و قالوا » الضمير يرجع إلى اليهود و النصارى أي قالت اليهود « كونوا هودا » و قالت النصارى كونوا « نصارى » كل فريق منهم دعا إلى ما هو عليه و معنى « تهتدوا » أي تصيبوا طريق الحق كأنهم قالوا تهتدوا إلى الحق أي إذا فعلتم ذلك كنتم قد اهتديتم و صرتم على سنن الاستقامة « قل » يا محمد « بل ملة إبراهيم » أي بل نتبع دين إبراهيم و على الوجه الآخر بل اتبعوا دين إبراهيم و قد عرفت الوجوه الثلاثة في الإعراب فلا معنى لإعادتها « حنيفا » مستقيما و قيل مائلا إلى دين الإسلام و في الحنيفية أربعة أقوال
( أحدها ) أنها حج البيت عن ابن عباس و الحسن و مجاهد ( و ثانيها ) أنها اتباع الحق عن مجاهد ( و ثالثها ) أنها اتباع إبراهيم فيما أتى به من الشريعة التي صار بها إماما للناس بعده من الحج و الختان و غير ذلك من شرائع الإسلام ( و الرابع ) أنها الإخلاص لله وحده في الإقرار بالربوبية و الإذعان للعبودية و كل هذه الأقوال ترجع إلى ما قلناه من معنى الاستقامة و الميل إلى ما أتى به إبراهيم (عليه السلام) من الملة « و ما كان من المشركين » أي و ما كان إبراهيم من المشركين نفى الشرك عن ملته و أثبته في اليهود و النصارى حيث قالوا عزير ابن الله و المسيح ابن الله و في قوله سبحانه « بل ملة إبراهيم » حجة على وجوب اتباع ملة إبراهيم (عليه السلام) لسلامتها من التناقض و لوجود التناقض في اليهودية و النصرانية فلذلك صارت ملة إبراهيم أحرى بالإتباع من غيرها فمن التناقض في اليهودية منعهم من جواز النسخ مع ما في التوراة من الدلالة على جوازه و امتناعهم من العمل بما تقدمت به البشارة في التوراة من اتباع النبي الأمي مع إظهارهم التمسك بها و امتناعهم من الإذعان لما دلت عليه الآيات الظاهرة و المعجزات الباهرة من نبوة عيسى و محمد (صلى الله عليه آله سلّم) مع إقرارهم بنبوة عيسى بدلالة المعجزات عليها إلى غير ذلك من أنواع التناقض و من التناقض في قول النصارى قولهم الأب و الابن و روح القدس إله واحد مع زعمهم أن الأب ليس هو الابن و أن الأب إله و الابن إله و روح القدس إله و امتناعهم من أن يقولوا ثلاثة آلهة إلى غير ذلك من تناقضاتهم المذكورة في الكتب .