اللهم صل على محمد وال محمد الطيبين الطاهرين الاشراف وعجل فرجهم يا كريم
بيان الإمام الصادق لكيفية الانتفاع بالحجة الغائب
نطقت أحاديث أهل البيت عليهم السلام وبصورة متواترة بأن الله تعالى لا يخلي أرضه من حجة عل عباده منذ أن خلق الله آدم وإلى قيام الساعة، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الحجة ظاهرا مشهورا، أو خائفا مستورا
والتسليم بهذه القاعدة يعني الاعتقاد بوجود الإمام المهدي عليه السلام في أرض الله عز وجل وان لم يره أحد، وهو بحد ذاته كاف لنمو الفضيلة، وخلق جو من التآلف والمودة بين المؤمنين الذين يعيشون في حالة انتظار دائم وترقب شديد لظهوره عليه السلام، الأمر الذي يؤدي إلى حفظ المجتمع المسلم من التشتت والضياع، ومنعه من الانحدار وراء الشهوات، وصونه من كل انحراف.
كما أن نفس وجود الإمام عليه السلام فيه منافع كثيرة ترتبط بحياة الناس جميعا، من نزول بركات السماء، وعدم المؤاخذة بالعقاب العاجل ونحوها، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة مبينا أهمية الحجة وهي في زمن نزوله منحصرة برسول الله صلى الله عليه وآله، فقال تعالى: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون)،(1) وأما بعده صلى الله عليه وآله فلا شك في أنها بآله الكرام عليهم السلام.
لقد حاول الإمام الصادق عليه السلام تقريب صورة الانتفاع بالإمام الحجة الغائب عليه السلام بمثال مادي محسوس، ليكون ذلك أدعي إلى الاذعان والتصديق.
فعن سليمان بن مهران الأعمش، عن الإمام الصادق، عن أبيه الإمام الباقر، عن أبيه الإمام علي بن الحسين عليهم السلام، قال: (نحن أئمة المسلمين، وحجج الله على العالمين... ولم تخل الأرض منذ خلق الله آدم من حجة الله ولا تخلو إلى أن تقوم الساعة من حجة الله فيها، ولو لا ذلك لم يعبد الله. قال سليمان: فقلت للصادق عليه السلام: فكيف ينتفع الناس بالحجة الغائب المستور؟ قال عليه السلام: كما ينتفعون بالشمس إذا سترها السحاب).(2)
وكما أن السحاب لا يمنع من فوائد الشمس الكثيرة، ولولاها لانعدمت الحياة، فكذلك لا تمنع الغيبة من الفوائد العظيمة المترتبة على وجود الإمام عليه السلام، وهذا ما يفسر لنا معنى قول الإمام الصادق عليه السلام: (لو بقيت الأرض بغير امام لساخت).(3)
جدير بالذكر أن حديث الإمام الصادق عليه السلام المتقدم برواية الأعمش هو جزء من حديث عظيم لرسول الله صلى الله عليه وآله، برواية جابر بن عبد الله الأنصاري، قال رضي الله عنه: (لما أنزل الله عز وجل على نبيه محمد صلى الله عليه وآله (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)(4) قلت: يا رسول عليه السلام عرفنا الله ورسوله، فمن اولو الأمر الذين قرن الله طاعتهم بطاعتك؟ فقال عليه السلام: (هم خلفائي يا جابر، وأئمة المسلمين (من) بعدي أولهم علي بن أبي طالب، ثم الحسن والحسين، ثم علي بن الحسين، ثم محمد بن علي المعروف في التوراة بالباقر، وستدركه يا جابر، فإذا لقيته فأقرئه مني السلام، ثم الصادق جعفر بن محمد، ثم موسى ين جعفر، ثم علي بن موسى، ثم محمد بن علي، ثم علي بن محمد، ثم الحسن بن علي، ثم سميي وكنيي حجة الله في أرضه، وبقيته في عباده ابن الحسن بن علي، ذاك يفتح الله تعالى ذكره على يديه مشارق الأرض ومغاربها، ذاك الذي يغيب عن شيعته وأوليائه غيبة لا يثبت فيها على القول بامامته الا من امتحن الله قلبه للايمان)، قال جابر: فقلت له: يا رسول الله فهل يقع لشيعته الانتفاع به في غيبته؟ فقال صلى الله عليه وآله: (اي والذي بعثني بالنبوة انهم يستضيئون بنوره وينتفعون بولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس وان تجللها سحاب، يا جابر هذا من مكنون سر الله، ومخزون علمه، فاكتمه الا عن أهله).(5)
وتشبيه فائدة الإمام المهدي عليه السلام في غيبته بفوائد الشمس المجللة بالسحاب يوحي إلى أمور، قد تعرق لها العلامة المجلسي في ذيل هذا الخبر، ولا بأس بنقلها كما هي لفائدتها.
قال رحمه الله: (بيان - التشبيه بالشمس المجللة بالسحاب يوحي إلى أمور:
الأول: ان نور الوجود والعلم والهداية، يصل إلى الخلق بتوسطه عليه السلام؛ إذ ثبت بالأخبار المستفيضة أنهم العلل الغائية لا يجاد الخلق، فلو لا هم لم يصل نور الوجود إلى غيرهم، وببركتهم والاستشفاع بهم، والتوسل إليهم يظهر العلوم والمعارف على الخلق، ويكشف البلايا عنهم، فلو لا هم لا ستحق الخلق بقبائح أعمالهم أنواع العذاب، كما قال تعالى: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم)(6) ولقد جربنا مرارا لا نحصيها أن عند انغلاق الأمور واعضال المسائل، والبعد عن جناب الحق تعالي، وانسداد أبواب الفيض، لما استشفعنا بهم، وتوسلنا بأنوارهم، فبقدر ما يحصل الارتباط المعنوي بهم في ذلك الوقت، تنكشف تلك الأمور الصعبة، وهذا معاين لمن أكحل الله عين قلبه بنور الايمان.
الثاني: كما أن الشمس المحجوبة بالسحاب مع انتفاع الناس بها - ينتظرون في كل آن انكشاف السحاب عنها وظهورها، ليكون انتفاعهم بها أكثر، فكذلك في أيام غيبته عليه السلام، ينتظر المخلصون من شيعته خروجه وظهوره، في كل وقت وزمان، ولا ييأسون عنه.
الثالث: ان منكر وجوده عليه السلام مع وفور ظهور آثاره كمنكر وجود الشمس إذا غيبها السحاب عن الأبصار.
الرابع: ان الشمس قد تكون غيبتها في السحاب أصلح للعباد، من ظهورها لهم بغير حجاب، فكذلك غيبته عليه السلام أصلح لهم في تلك الأزمان؛ فلذا غاب عنهم.
الخامس: ان الناظر إلى الشمس لا يمكنه النظر اليها بارزة عن السحاب، وربما عمي بالنظر اليها لضعف الباصرة عن الاحاطة بها، فكذلك شمس ذاته المقدسة ربما يكون ظهوره أضر لبصائرهم، ويكون سببا لعماهم عن الحق، وتحتمل بصائرهم الايمان به في غيبته، كما ينظر الإنسان إلى الشمس تحت السحاب ولا يتضرر بذلك.
السادس: ان الشمس قد تخرج من السحاب وينظر اليها واحد دون واحد، فكذلك يمكن أن يظهر عليه السلام في أيام غيبته لبعض الخلق دون بعض.
السابع: انهم عليهم السلام كالشمس في عموم النفع، وإنما لا ينتفع بهم من كان أعمي كما فسر به في الأخبار قوله تعالى: (ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا).(7)
الثامن: ان الشمس كما أن شعاعها يدخل البيوت، بقدر ما فيها من الروازن والشبابيك، وبقدر ما يرتفع عنها من الموانع، فكذلك الخلق انما ينتفعون بأنوار هدايتهم بقدر ما يرفعون الموانع عن حواسهم ومشاعرهم التي هي روازن قلوبهم من الشهوات النفسانية، والعلائق الجسمانية، وبقدر ما يدفعون عن قلوبهم من الغواشي الكثيفة الهيولانية إلى أن ينتهي الأمر إلى حيث يكون بمنزلة من هو تحت السماء يحيط به شعاع الشمس من جميع جوانبه بغير حجاب).(
----------------
(1) سورة الأنفال 33:8.
(2) اکمال الدين 22:207:1 باب 21، وأمالي الصدوق 156- 157: 15 مجلس 34، وفرائد السمطين الجويني الشافعي 1: 45- 46: 11.
(3) أصول الکافي 10:179:1، باب أن الأرض لا تخلو من حجة، وکتاب الغيبة النعماني 8:138 باب 8.
(4) سورة النساء 59:4.
(5) اکمال الدين 3:253:1 باب 23.
(6) سورة الأنفال 33:8.
(7) سورة الاسراء 72:17.
(
بحار الأنوار العلامة المجلسي 52: 94-93 ذيل الحديث الثامن، باب علة الغيبة وکيفية انتفاع الناس به عليه السلام.