عدد المساهمات : 216 نقاط : 652 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 23/05/2013
موضوع: طبيعة التدخّل الإلهي الإثنين سبتمبر 09, 2013 6:08 am
اللهم صلِ على محمد و ال محمد
في تأريخ الأديان على العموم، نجد ظاهرة ترتسم على أكثر من صفحة، وتتكرّر أكثر من مرّة، هذه الظاهرة هي ما نطلق عليه " ظاهرة التدخّل الإلهي".
فرغم أنّ طبيعة هذا الدين بشريّة ـ كما أسلفنا القول فيه ـ إلاّ أنّنا ما نزال نرى صوراً عديدة للتدخّل الإلهي في تقرير مصير هذا الدين.
قصّة إبراهيم عليه السلام صورة من صور التدخّل الإلهي، حيث أضحت النار برداً وسلاماً على إبراهيم.
وقصّة موسى عليه السلام هي صورة أخرى لهذا التدخّل، حيث انفلق له البحر، بينما غرقت فيه جنود فرعون.
ومن تلك الصور، قصة محمّد صلى الله عليه وآله وهو مختف في الغار حين هاجر إلى المدينة، فالعنكبوت التي نسجت بيتها، والحمامة التي وضعت بيضها لتغطية وجود محمّد صلى الله عليه وآله ما هي إلاّ تعبير عن التدخّل الإلهي في تقرير مصير هذا الدين.
وعلى طول التأريخ نلتقي بنماذج من هذا التدخّل.
وقضية الإمام المنتظر نفسها واحدة من هذه الصور والنماذج، كما سنرى في ختام هذا الحديث.
الحديث الآن عن طبيعة هذا التدخّل وحدوده.
هل يخضع لضوابط معيّنة؟
وإذا كان فما هي تلك الضوابط؟
دعنا نرجع في فهم الموضوع أكثر إلى استعراض بعض صور التدخّل الإلهي، التي نلتقي بها في تأريخ الأديان.
واحدة من تلك التدخّلات قصّة إبراهيم عليه السلام.
لقد وجدنا كيف امتدّت يد الغيب لتنقذ إبراهيم عليه السلام من موت محتم.
فالنار التي أعدّت له ها هو يسقط في أعماقها، وها هي ألسنة النار المرتفعة تجرّ إليها إبراهيم.
إنّه لا يملك شيئاً في الحال.
ولو اجتمع الإنس والجن على أن ينقذوه وهو يرتمي في أحضان تلك النار لما وجدوا لذلك سبيلاً.
هنا تدخّلت السماء وتدخّل الغيب ليحمي هذا النبي من لهب النار، فكانت عليه برداً وكانت عليه سلاماً.
ولكن كيف حدث ذلك، وضمن أية ظروف؟
أوّلاً:
لقد دعا إبراهيم قومه.
أوضح لهم سبيل الحق، وكشف لهم زيف الباطل.
تحمّل في ذلك كل عناء، وتجرّع كل مأساة.
ولكن إصراره على الدعوة كان يواجه إصراراً على الباطل، وعناداً عن الحق.
ماذا يصنع إبراهيم؟
لقد استخدم كل وسيلة، وهاهم يبتعدون عنه إلى غير رجعة.
لقد جاء هذا القرار بعد أن علم الله صدق النية، من خلال التضحيات والبطولات التي جسّدها المسلمون بكل صبر وبسالة.
وبعد أن علم الله أنّ طاقات المسلمين محدودة، والقوى التي تشترك في المعركة غير متكافئة، فالمسلمون قلّة في العدد، وضعاف في العدّة. بينما المشركون أضعافهم عدداً وعدّة.
إذن فالمسلمون بحاجة إلى عون.
لا يمكن أن يتركوا لوحدهم، وإلاّّ اصطلمهم العدو، وسحقهم، وبذلك تسقط راية الحق إلى الأبد.
حينذاك أعطي هذا القرار، وهبطت إلى مسامع وأفئدة المسلمين بشرى تزف إليهم النصر.
إن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين.
لأنّ اليد الإلهية تشترك معهم في المعركة، والعزيمة تنفثها السماء في جنود الأرض، ليقلعوا أعمدة الشرك، ويزعزعوا حصونه وقواعده بإذن الله، والله مع الصابرين.
وفي آية النصر يتّضح جداً الضابط الأوّل للتدخّل الإلهي.
النصر الإلهي رهين بأن يقدّم أنصار الحق أوّلاً كل طاقاتهم من أجل نصرة الحق، وضمان حياته.
النصر الإلهي رهين بأن يتقدّم أنصار الحق خطوات، ويزجّوا أنفسهم في قلب المعركة، ومن ثمّ يثبّت الله الأقدام، وينصر جيوش الحق.
ومن الخطأ أنّ نفهم التدخّل الإلهي بوصفه عملاً ارتجالياً لا يخضع لقانون.
وأكثر منه خطأ أن ننتظر في معركة الحق أن يهبط علينا الجند من السماء، ونحن قابعون في البيوت، وأن ينصرنا الله قبل أن ننصر رسالته، وأن يثبّت أقدامنا قبل أن نتقدّم بها في طريق النضال.
ولنعد الآن إلى قضية الإمام المهدي عليه السلام.
كيف تمثّل هذه القضية صورة من صور التدخّل الإلهي؟
وهل توفّرت فيها شروط قانون التدخّل؟
إنّ غيبة الإمام المهدي، وإفلاته من المطاردة الشديدة، لم يكن أمراً طبيعياً، وبالأخص لشخص لا يجاوز عمره خمس سنوات.
كما أنّ امتداد هذه الغيبة لمئات من السنين هو الآخر ليس طبيعياً، ولا ميسوراً ضمن الظروف الاعتيادية.
ومن هنا فالقضية في فهمنا تعكس تدخّلاً إلهياً.
إنّها قضية إعجاز، وتجاوز لقوانين الطبيعة المألوفة.
ولست هنا بصدد البرهنة على معقولية هذا الإعجاز، فما دمنا نضع هذه القضية في قائمة قضايا التدخّل الإلهي، والإعجاز الغيـبي، إذن لم يعد غريباً أو معسوراً، أن تحقق القدرة الإلهية هذا النمط من الإعجاز.
فالقدرة الإلهية لا تضيق ولا تعجز عن الامتداد بعمر شخص إلى آلاف السنين.
أليست القدرة الإلهية هي التي أنطقت عيسى وهو في المهد؟!
وحافظت على حياة أهل الكهف أكثر من ثلاثمائة عام، دون أن ينالوا فيها طعاماً أو شراباً؟!.
أليست القدرة الإلهية هي التي عرجت بالنبي محمّد إلى السماء، ورفعت عيسى من عالم الشهادة إلى عالم الغيب واختفى على الناس؟
إذا كنّا لا نجد حرجاً في التصديق بكل ذلك، فإنّه ليس من حقّنا أن نتحرّج في قبول قضية القائد المنتظر، فهي صورة من صور الإعجاز، بل ومن أبسط تلك الصور.
ومهما يكن فما أقصده الآن بالحديث هو التعرّف إلى الظروف التي دعت إلى هذا التدخّل.
هل توفرّت ضوابط التدخّل الإلهي في هذه القضية؟
الحقيقة هي ذلك.
فمن جانب كانت القوى الشيعية المناصرة للإمام عاجزة كل العجز عن حمايته، وتحصين وجوده.
ومن جانب آخر فإنّ خط التشيع الذي يمثل الإسلام الأصيل لم يعد قادراً على تحمّل نكبة جديدة، بفقدان زعيمه الإمام المعصوم، فلا أحد يمكن أن يخلفه في هذه الزعامة، ويكون بمستوى المرحلة الحرجة.
فلم يكن رجال الشيعة آنذاك مهيّئين في كافّة المجالات للقيادة والزعامة.
والظروف الحرجة العصيبة التي كانت تحيط بالتشيّع تتطلب قيادة في قمّة النضج، والاستيعاب، أو بالأحرى قيادة معصومة،وهذا ما لم يكن متوفراً لدى أحد من رجال الشيعة.
ومن هنا كان لا بد أن يبقى الإمام المهدي وراء الخطوط، وإلاّ فإنّ التشيع كان قريباً إلى التفتيت.
لكن في ذات الوقت كان الوضع السياسي، وحالة المطاردة العنيدة لا تسمح للإمام أن يبرز تحت الشمس، لا بدّ أن يعمل تحت الستار.
وهكذا كانت الضرورة تقضي على الإمام بما يلي:
إنّ عليه أن لا يترك الخط الشيعي، بل يبدأ بتجهيز وخلق القادة الأكفّاء لمواصلة العمل، وللقيام بمهام القيادة جميعاً، وفي خلال هذا الوقت يكون الإمام قد مشى بالتشيّع شوطاً آخر، يسمح له بترك القيادة ظاهراً لهؤلاء.
ومن ناحية ثانية فإنّ عليه أن يمارس هذا العمل في خفاء، وبعيداً عن عيون الرقابة المنتشرة.
وهذا ما تحقّق تأريخياً.
ففي عهد الغيبة الصغرى التي دامت أكثر من سبعين عاماً، توفّر الإمام خلالها على تهيئة القدرة لدى الخط على تحمل مسؤولية القيادة تماماً.
في الوقت الذي كان يمارس قيادته طوال هذه الفترة متستّراً، وعن طريق نوّابه الأربعة:
عثمان بن سعيد.
محمّد بن عثمان الخلاّني.
الحسين بن روح.
علي بن محمّد السمري.
كيف لم يكن رجال التشيع قادرين على قيادة الخط لوحدهم؟ كما حدث ذلك فيما بعد، في عهد الغيبة الكبرى، حيث بدأ فقهاء الشيعة يمارسون قيادة الخط بالاستقلال؟!
إنّ الإجابة التفصيلية على هذا السؤال تفرض عليّ تناول الوضع التأريخي للتشيع، وطبيعية المرحلة يومذاك.
غير أنّي سأوجز حديثي هنا لأقول:
إنّ حالة الإرباك السياسي، واستخدام كل أساليب القمع والتصفية، ومطاردة الوجود الشيعي في كل الأصقاع، وتحت كل ظل، لم يكن يسمح بنمو قيادات شيعية بارزة، ومتمكّنة من تجاوز كل هذه الصعوبات، والتغلّب على كل هذه المحن، وعدم الانصدام نفسياً والانهيار تحت هذه الضغوط.
ومن زاوية ثانية فإنّ الكفاءة العلمية بالمستوى القادر على مواجهة الأسئلة الكثيرة والمستجدة،وعلى كل الثغرات، أمر لم تتّخذ له تدابير سابقة.
وفي مجموع هذه الملابسات كانت حياة الإمام عليه السلام مهدّدة بالخطر.
ولو لم تقدّر له الغيبة، والخلاص من مخالب القوى المعادية، لكانت ساعة الموت قد أزفت بالنسبة للمذهب كله، وبذلك تسقط آخر قلعة من قلاع الإسلام، التي ظلت محافظة على وجودها طوال هذه الفترة.
إذن فقد كان التدخّل الإلهي أمراً حتمياً، من أجل صيانة خط التشيع.
وبالفعل فقد ضاع الإمام المهدي عليه السلام على الخصوم، بينما ما برحت اتصالاته برجال التشيع غير منقطعة قرابة سبعين عاماً.
وقد كانت هذه الاتصالات بما تحمله من توجيه علمي، أو سياسي، بمثابة الهواء الذي تتنفسه رئة التشيع، ومن دون ذلك فإنّ شجرة التشيع المهزوزة يومذاك لم تكن قادرة على الثبات في الأرض أمام الهزات العنيفة.
والتدخّل الإلهي لا يتجسّد فقط في غيبة الإمام المهدي عجل الله فرجه.
إنّ نهضته المظفّرة في اليوم الموعود مدعومة بيد الغيب، مسدّدة بنصر السماء.
لكن متى يكون هذا التدخّل؟ ومتى يكون ذلك النصر؟
إنّه يخضع لنفس القانون الذي شرحناه في التدخّل الإلهي حينما تقذف جبهة الحق كل عدّتها.
وحينما يتفاعل المؤمنون في معركة الحق، ويبذلون بسخاء كل الإمكانيات، ويرحّبون بكل التضحيات.
غير كاسلين، ولا جازعين.
يدافعون عن الحق بكل قوّة، وكل حرارة،وكل إخلاص.
يتقدّمون بالراية خطوات، يثبتون الأقدام في المواقع.
لا ترهبهم كثرة العدو، ولا توهن من عزمهم قلة الصديق.
هم أصدقاء الحق، والحق وحده.
وحين تنتهي طاقتهم، ويحتاجون إلى عون السماء يتدخّل الغيب.
(حَتّى إذا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوُا أنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنا).
هذا هو قانون التدخّل الإلهي.
وفي ضوء هذا القانون تَتحدّد النهضة الكبرى لقائدنا المنتظر