شيء ما عن القائد المنتظر
وأشرق الأمل
أهم شيء يرهب الطغاة ويقلق الحكام المستبدين هو وجود الفكرة المناهضة لتسلطهم واستبدادهم، فهم يريدون استعباد الناس والتحكم بمصايرهم والتلاعب بثرواتهم، ويريدون من الناس أن يتقبلوا ذلك بكل سرور وارتياح! وأن لا يسمحوا لأنفسهم حتى بالتفكير المعارض للسلطة الحاكمة. فهي تحكم لا على أجسامهم فقط، وإنما على عقولهم وتفكيرهم ومشاعرهم. وإذا أحست السلطة الظالمة بوجود فكرة معارضة تختمر في ذهن فرد أو جماعة فلا مكان لهم إلا بطن الأرض بعد أن يمروا بمرحلة قاسية من التأديب على تمردهم الفكري على السلطة التي ترى نفسها قد استملكتهم! فالمعارض لا حق له في الحياة.
أهل البيت - معارضة صادمة:
وأهل البيت عليهم السلام وهم الذرية الطاهرة للرسول محمد صلى اللَّه عليه وآله والذين أعدهم اللَّه لقيادة الأمة وتحمل مسؤولية الرسالة وصيانة نقائها وطهارتها عن التلويث والتشويه والتحريف لابد وأن يشكلوا أهم جبهة معارضة بمجرّد وجودهم وممارستهم لدور التوجيه والتوعية وحماية الرسالة، فهم الشبح المرعب للحكام الطغاة من الأمويين والعباسيين الذين تسلطوا على الأمة بدون حق ولا جدارة، وهم العقبة الكأداء في طريق تضليل الناس وتحذيرهم بأعلام الاستبداد والتسلط المزيّف.
فلابد إذاً من أن يكون لهم النصيب الأوفر من تنكيل السلطات واضطهادها.
وتحمل أهل البيت والصفوة من أتباعهم كل وسائل التنكيل وأساليب الاضطهاد التي كانت تمارسها السلطات ضدهم.
واستطاعوا بصمودهم وسياستهم المرنة الحكيمة وخططهم الرسالية الصائبة أن يتجاوزوا برسالتهم تلك الفترات الحالكة وأن يتغلبوا على تلك الظروف القاسية وأن يخترقوا كل الحجب والحواجز التي اصطنعتها السلطة للفصل بين جماهير الأمة وبين جوهر دينها العظيم وقادتها الحقيقيين الصادقين.
فبعد أكثر من قرنين من الصراع العنيف الذي استخدمت فيه السلطة كل إمكاناتها وجهودها ضد فكرة الحق وأئمة الهدى. بعد ذلك ورغم كل ذلك فقد امتدت جبهة الحق واتسعت رقعة المعارضة في صفوف جماهير الأمة وشعوبها الإسلامية، وازدادت ثقة الناس وقوي التفاهم حول القادة الرساليين من أهل البيت عليهم السلام.
ففي منتصف القرن الثالث كان أتباع أهل البيت منتشرين في جميع أنحاء البلاد الإسلامية وأرجائها فلهم دولة عظيمة في المغرب استطاعت أن تقتطع جزءاً مهماً من الدولة الإسلامية، من سلطة العباسيين الطغاة. وهناك في طبرستان لهم ثورة قوية حققت النصر على جحافل السلطة وأعلنت انفصال المنطقة عن الحكم العباسي وقيام دولة علوية معادية للعباسيين.
وهناك في الكوفة إرهاصات ثورة، وفي الحجاز محاولات تمرّد، وفي اليمن فلول معارضة، كل ذلك من تأثير الفكر الرسالي الثوري الذي يبثه أهل البيت في صفوف الأمة الإسلامي.
الإمام العسكري - القائد الحكيم:
وكان الإمام القائد لطلائع الأمة في ذلك العصر هو الإمام الحادي عشر من أئمة أهل البيت الإمام الحسن بن علي العسكري، والذي فرضت عليه السلطة إقامة جبرية في عاصمة الخلافة العباسية آنذاك (سامراء).
ولكنه ورغم ضغوط السلطة ورقابتها الدقيقة التي كانت تلاحق الإمام حتى في فترات سجنه ومعتقلاته. رغم ذلك كان يمارس دوره في توجيه الأمة وتزريق جماهيرها بالوعي وقيادة طلائعها المؤمنة.
فكانت الحقوق الشرعية من الأخماس والزكوات ترد على الإمام العسكري بصورة سرية رائعة، عبر أحد وكلائه الثقاة: عثمان بن سعيد العمري والذي كان من كبار العلماء، ولكن الإمام دفعه للاتجار بالسمن (الزيت) ليصنع من ذلك تغطية ظاهرية لدوره الهام في إيصال الأموال إلى الإمام بسرية كافية.. فباعتباره بيّاعاً للمسن كان يملأ بعض أجربة السمن بالأموال المتوفرة لديه من الحقوق الشرعية ثم يبعثها إلى بيت الإمام العسكري وظاهرها ملطخ بالسمن، وطبعاً لا يثير شبهة الجواسيس دخول جراب سمن لبيت الإمام!(2)
كما عهد الإمام العسكري إلى أحد أصحابه وهو محمد بن مسعود العياشي أن يقوم بمهمة جمع تراث الأئمة من أهل البيت بعد أن فرقته ظروف الكبت والإرهاب، فأنفق العياشي ثروة أبيه الضخمة على ذلك حتى كانت داره كالمسجد تجمع العشرات ما بين ناسخ ومقابل وقارئ ومعلق.. فاجتمع لديه نتيجة ذلك النشاط العظيم ما يزيد على مائتين كتاب تحوي أحاديث أهل البيت وتعاليمهم في مختلف المجالات(3).
إذن فقد كان النشاط على أشده في صفوف الجماهير المسلمة بيد أن الشيء الذي يقلق طلائع الإيمان والوعي هو مستقبل هذا النشاط ومصير حركة الوعي الديني السليم بعد الإمام الحسن العسكري، والذي لابد وأن تصادر السلطة حياته كما صادرات حياة آبائه من قبل، فمن هو القائد بعد ذلك؟ ومن هو الإمام الذي سيتحمل مسؤولية الرسالة ويقوم بقيادة طلائع الأمة؟
وتثور الأسئلة ملحة في أذهان المؤمنين وتفرض نفسها على خواطرهم.. وما أسرع أن يتذكروا الأحاديث المؤكدة المتواترة عن رسول اللَّه محمد صلى اللَّه عليه وآله والتي تنص بصراحة ووضوح على أن اللَّه تعالى قد أعد لهذه الأمة اثني عشر إماماً ينذرون أنفسهم لحماية الشريعة ونشر الرسالة الإسلامية العظيمة.
ففي صحيح البخاري (الجزء الرابع، ص175، طبعة مصر سنة 1355) عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله أنه قال: (يكون اثنا عشر أميراً كلهم من قريش).
ومثله في صحيح مسلم والترمذي وجميع كتب الحديث(4).
ومن هؤلاء الأئمة القادة الاثني عشر عاصرت الأمة عشرة أئمة وها هي في ظل الإمام الحادي عشر.. فيا ترى من هو الإمام الثاني عشر والذي اختارته السماء ليكون خاتم أوصياء محمد وآخر قادة أمة الإسلام؟
إن الإمام العسكري لم يولد له ولد لحد الآن، والسلطة حذرة جداً ومتشائمة من الإمام الثاني عشر الذي بشرت به الأحاديث ووعدت أن يكون على يديه استئصال شأفة الظلم وقلع جذور الطغيان وإقامة حكم الأمن والإيمان.
تباشير الفجر:
وجاءت سنة 255 هجرية لتعطي الإجابة الحاسمة على كل هذه التساؤلات…
فالإمام العسكري تزوج من جارية شريفة تنحدر من أسرة قيصر ملك الروم وتنتمي إلى وصي المسيح شمعون…
وشاء اللَّه أن تكون هذه الجارية (التي أطنبت الروايات في وصف عفتها ومعرفتها وإيمانها) أُمًّا لخاتم أوصيائه ومنقذ عباده ومظهر دينه الإمام الحجة الثاني عشر.
وحملت بالإمام المنتظر في عهد المعتز ا لعباسي والذي كان شديد القسوة على الإمام العسكري ومهتماً جداً بالقضاء على الإمام قبل أن يجب القائد المنتظر.. ولكن أنى له ذلك ما دام اللَّه يأبى إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، فكان الحمل مستوراً لا يظهر له أي أثر في بطن أمه التي كانت مراقبة من السلطة كسائر نساء الإمام العسكري.
وقبيل الولادة تلبدت سماء سياسة الدولة بالغيوم الموسمية التي تغشى أجواء السلطة كلما ثارت شهوة الحكم والسيادة عند أحد أفراد الأسرة العباسية الحاكمة… فيتآمر مع قادة الجيش للإطاحة بالخليفة الحاكم حتى يتسنم مقامه..
وهذا ما حصل بالفعل في 27 رجب سنة 255 هجرية حيث تآمر محمد المهتدي العباسي على ابن عمه المعتز بن المتوكل العباسي وبتشجيع من قادة الجيش الأتراك، وخلع ابن عمه المعتز وبويع للمهتدي بالخلافة، وكان من الطبيعي أن يترك هذا الحادث ذيولاً سياسية تجعل الخليفة الجديد مشغولاً بمعالجتها فترة من الوقت مما يؤمن فترة من الهدوء النسبي لبيت الإمام العسكري عليه السلام ريثما تتم ولادة الإمام المنتظر، وفعلاً تمت الولادة وبشكل هادئ جداً في ليلة النصف من شعبان، وبعد ثمانية عشر ليلة من استيلاء المهتدي على السلطة.
وأشرق النور:
وكانت للولادة قصة طريفة نحرص على نقلها للقراء:
تتحدث (حكيمة) بنت الإمام محمد الجواد، أخت الإمام علي الهادي عمة الإمام الحسن العسكري عليهم جميعاً أفضل الصلاة والسلام- عن تلك المناسبة السعيدة فتقول:
بعث إليَّ أبو محمد الحسن بن علي العسكري عليهما السلام.
فقال: يا عمة اجعلي إفطارك عندنا هذه الليلة فإنها الليلة النصف من شعبان.. فإن اللَّه تبارك وتعالى سيظهر في هذه الليلة الحجة، وهو حجته في أرضه.
قالت: فقلت له: ومن أمه؟
قال لي: نرجس.
قلت له: جعلني اللَّه فداك واللّه ما بها أثر!!
فقال الإمام: هو ما أقول لك.
قالت: فجئت فلما سلمت وجلست، فجاءت نرجس تنزع خفي! وقالت لي: يا سيدتي وسيدة أهلي كيف أمسيت؟
فقلت: بل أنت سيدتي وسيدة أهلي.
قالت: فأنكرت قولي، وقالت: ما هذا يا عمة؟
فقلت لها: يا بنية إن اللَّه تعالى سيهب لك في ليلتك هذه غلاماً سيداً في الدنيا والآخرة.. فخجلت واستحيت.
فلما فرغت من صلاة العشاء الآخرة، أفطرت وأخذت مضجعي فلما أن كان في جوف الليلة، قمت إلى الصلاة وفرغت من صلواتي وهي نائمة ليس بها حادثة!! ثم جلست معقبة ثم اضطجعت، ثم انتبهت فزعة وهي نائمة.
وقامت نرجس وصلَّت نوافل الليل ثم نامت.
قالت حكيمة: وخرجت أتفقد الفجر، فإذا أنا بالفجر الأول كذنب السرحان، وهي نائمة! فدخلني الشك، فصاح بين أبو محمد عليه السلام من المجلس: لا تعجلي يا عمة فهناك الأمر قد قرب!
فجلست وقرأت ألم السجدة ويس، فبينما أنا كذلك، انتبهت نرجس فزعة، فوثبت إليها وقلت له:
بسم اللَّه عليك، أتحسين شيئاً؟
قالت: نعم يا عمة.
قلت لها: اجمعي نفسك واجمعي قلبك فهو ما قلت لك.
قالت حكيمة: وأخذتني فترة، وأخذتها هي أيضاً فترة.. وانتبهت بحس سيدي الإمام المنتظر!
فكشفت عنها فإذا أنا به عليه السلام ساجداً يتلقى الأرض بمساجده، فضممته، فإذا أنا به نظيف منظف!
فصاح بي أبو محمد الحسن عليه السلام: هلمي إليَّ بابني يا عمة.
فجئت به غليه، فوضع يديه تحت إليته وظهره ووضع قدمه في صدره، ثم أدلى لسانه في فيه، وأَمَرَّ يده على عينيه وسمعه ومفاصله.
وبعد أ أجرى عليه مراسيماً خاصة، قال لعمته حكيمة: يا عمة اذهبي إلى أمه ثم ائتني به.
ثم قال: يا عمة إذا كان يوم السابع فأتينا.
قالت حكيمة: فلما أصبحت جئت لأسلّم على أبي محمد الحسن العسكري عليه السلام وكشفت الستر لأتفقد المنتظر فلم أره.
فقلت: جعلت فداك ما فعل سيدي؟
قال الإمام العسكري: يا عمة استودعناه الذي استودعت أم موسى!(5)
وهكذا تمت ولادة الإمام القائد المنتظر في جو من السرية والهدوء والأمن النسبي الذي أتاحته التغيرات السياسية.
إعلام هادئ:
وإذا كانت الظروف الأمنية تفرض اختفاء الإمام المهدي أثناء حمله، وفي أول يوم من ولادته حتى عن عمته حكيمة التي شهدت لحظات الولادة.. فكيف إذن تطمئن الجماهير المؤمنة التي يشغلها التفكير في مستقبل الرسالة ويسودها القلق على مصير حركة التوعية والتغيير الخطيرة.
وهي تتلهف وتحترق شوقاً لقدوم الإمام الثاني عشر الذي أكدت عليه الأحاديث وبشرت به الرسالات السماوية.
لقد كان على الإمام الحسن العسكري عليه السلام أن يوفق بين الأمرين المهمين: كتمام الأمر وإخفائه عن السلطة وعيونها وإعلام الجماهير المؤمنة بولادة قائدها المنتظر.
لذلك فقد قام الإمام العسكري عليه السلام بدور الإعلام الهادئ الحكيم.. وذلك حسب الوسائل التالية:
1- كلف أحد أصحابه الثقاة بتوزيع كمية كبيرة من الخبز واللحم على شخصيات بني هاشم ووجهاء الفئة المؤمنة وبطريقة عير مثيرة، وذلك للاستبشار بمولد الإمام المنتظر.
فقد ورد عن أبي جعفر العمري قال: لما ولد السيد (إشارة إلى الإمام المهدي) قال أبو محمد العسكري: ابعثوا إلى أبي عمرو فبعث غليه فصار إلى الإمام.
فقال له الإمام العسكري عليه السلام: اشتر عشرة آلاف رطل خبز وعشرة آلاف رطل لحم وفرقه حسبة على بني هاشم وعقّ عنه بكذا وكذا شاة(6).
وعن محمد بن إبراهيم الكوفي: أن أبا محمد الحسن العسكري بعث إلى بعض من سماه لي شاة مذبوحة وقال: هذه من عقيقة ابني محمد(7).
وعن الحسن بن المنذر عن حمزة بن أبي الفتح قال: كان يوماً جالساً فقال لي: البشارة ولد البارحة مولود لأبي محمد عليه السلام وأمر بكتمانه، وأمر أن يعقّ عنه ثلاثمائة شاة، فقلت: وما اسمه؟ فقال: يسمى محمد(
.
ويتحدث إبراهيم صاحب الإمام العسكري عليه السلام فيقول: وجّه إليَّ مولاي أبو محمد بأربعة أكبش وكتب إليّ:
(بسم اللَّه الرحمن الرحيم، هذه عن ابني محمد المهدي، وكُلْ هنيئاً وأطعم من وجدتَ من شيعتنا) (9).
2- أخبر بعض أصحابه الموثوقين شفوياً بولادة الإمام المهدي، فقد أعلم أبا هاشم الجعفري، كما أخبر أبا طاهر البلالي، وصرّح أما أحمد بن إسحاق بن سعد بقوله: الحمد للّه الذي لم يخرجني من الدنيا حتى أراني الخلف من بعدي، أشبه الناس برسول اللَّه، خُلقاً وخَلقاً، يحفظه اللَّه في غيبته، ويظهره فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت جوراً وظلم(10).
3- كتب عليه السلام رسائل إلى زعماء المجتمعات الإسلامية التي تدين بالولاء لأهل البيت يخبرهم بولادة الإمام المنتظر، بمختلف بلدانهم ومناطقهم.
فقد كتب رسالة إلى موسى بن جعفر بن وهب البغدادي جاء فيها: (زعموا أنهم يريدون قتلي فيقطعون هذا النسل، وقد كذّب اللَّه عزّ وجلّ قولهم والحمد للّه) (11).
وبعث عليه السلام رسالة إلى كبير علماء قم -إيران- أحمد بن إسحاق قال له فيها: (ولد لنا مولود فليكن عندك مستوراً، وعن جميع الناس مكتوماً، فإنا لم نظهر عليه إلا الأقرب لقرابته والولي لولايته، أحببنا إعلامك ليَسُرَّك اللَّه به مثل ما سرَّنا به، والسلام) (12).
وعن علي بن بلال: خرج إليَّ مرة من أبي محمد الحسن بن علي العسكري قبل مضيه بسنتين يخبرني بالخلف من بعده، ثم أخرج إليَّ مرة قبل مضيه بثلاثة أيام يخبرني بالخلف من بعده) (13).
كما كتب عليه السلام إلى أمه يعلمها بولادة القائم(14).
4- كان عليه السلام يغتنم فرصة تواجد خواص أتباعه أو يتعمد جمعهم في مجلسه ليعرّفهم على الإمام المهدي مباشرة ويؤكد لهم أنه هو إمامهم الثاني عشر.
يقول معاوية بن حكيم ومحمد بن أيوب بن نوح ومحمد بن عثمان العمري، قالوا: عرض علينا أبو محمد الحسن بن علبي عليه السلام ولده ونحن في منزله وكنا أربعين رجلاً، فقال: هذا إمامكم من بعدي وخليفتي عليكم، أطيعوه ولا تتفرقوا من بعدي في أديانكم لتهلكوا أما إنكم لا ترونه بعد يومكم هذا.
قالوا:فخرجنا من عنده فما مضت إلا أيام قلائل حتى مضى أبو محمد(15).
وعن عمر الأهوازي قال: أراني أبو محمد بابنه وقال: هذا إمامكم من بعدي(16).
ويتحدث أبو غانم الخادم عن أحد هذه المواقف فيقول: ولد لأبي محمد عليه السلام مولود فسمّاه محمداً، فعرضه على أصحابه يوم الثالث وقال: هذا صاحبكم من بعدي وخليفتي عليكم، وهو القائم الذي تمتد عليه الأعناق بالانتظار، فإذا امتلأت الأرض جوراً وظلماً خرج فملأها قسطاً وعدل(17).
وهكذا انتشر الخبر في صفوف الجماهير المؤمنة ليزرع الأمل في قلوبها بمستقبل الرسالة المشرق على يد الإمام الثاني عشر، وليبدد غيوم القلق والتشكيك من نفوسها.
عمره الآن 1143 سنة؟
يتاح للإنسان أن يعيش في هذه الحياة فترة محدودة، يغادر الدنيا بعدها، وينتقل عبر جسر الموت إلى عالم آخر.
ومتوسط عمر الفترة التي يقضيها أي إنسان في هذه الدار الدنيا يتراوح ما بين ستين إلى سبعين سنة، وفي بعض الحالات القليلة قد يتجاوزها إلى المائة سنة، أما إذا تخطّى المائة سنة وبدأ يصارع عقود المائة الثانية فهذا يعتبر حالة استثنائية نادرة قد يسجلها التاريخ تحت عنوان: المعمرين.
بناءً على ذلك كيف صح لنا إذن أن نؤمن بوجود الإمام القائد المهدي الذي ولد سنة 255هـ ونحن الآن في سنة 1397هـ فيكون عمره الشريف 1143 سنة، فهل يمكن للإنسان أن يعيش هذا العمر الطويل؟
في الواقع لكي نستطيع التعرف على إمكانية هذه الحياة الطويلة يجب أن نتساءل ونبحث عن سبب الموت، فلماذا الموت؟
(هناك ما يقرب من مائتي إجابة عن هذا السؤال الخطير الذي كثيراً ما يطرح في المجالس العلمية، منها: (فقدان الجسم لفاعليته)، (انتهاء عملية الأجزاء التركيبية)، (تجمد الأنسجة العصبية)، (حلول المواد الزلالية القليلة الحركة، محل الكثرة الحركة منها)، (ضعف الأنسجة الرابطة)، (انتشار سموم بكتريا الأمعاء في الجسم).. وما إلى ذلك من الإجابات التي تتردد كثيراً ظاهرة الموت.
إن القول بفقدان الجسم لفاعليته جذاب للعقل.. فإن الآلات الحديدية والأحذية والأقمشة كلها تفقد فاعليتها بعد أجل محدود، فأجسامنا أيضاً تبلى وتفقد فاعليتها كالجلود التي نلبسها في موسم الشتاء. ولكن العلم الحديث لا يؤيدنا، لأن المشاهدة العلمية للجسم الإنساني تؤكد: أنه ليس كالجلود الحيوانية والآلات الحديدية، وليس كالجبال.. وإن أقرب شيء يمكن تشبيهه به هو ذلك (النهر) الذي لا يزال يجري منذ آلاف السنين على ظهر الأرض، فمن ذا الذي يستطيع القول بأن النهر الجاري يبلى ويهن ويعجز؟ أبناء على هذا الأساس يعتقد الدكتور (لنس بالنج) (وهو حائز على جائزة نوبل للعلوم): إن الإنسان أبدي إلى حد كبير، نظرياً، فإن خلايا جسمه تقوم بإصلاح ما فيه من الأمراض ومعالجتها تلقائياً! وبرغم ذلك فإن الإنسان يعجز ويموت، ولا تزال علل هذه الظاهرة أسراراً تحير العلماء.
إن جسمنا هذا في تجدد دائم، وإن المواد الزلالية التي توجد في خلايا دمائنا تتلف كذلك ثم تتجدد، ومثلها جميع خلايا الجسم، تموت وتحل مكانها خلايا جديدة، اللهم إلا الخلايا العصبية، وتفيد البحوث العلمية إن دم الإنسان يتجدد تجدداً كلياً خلال ما يقرب من أربع سنوات كما تتغير جميع ذرات الجسم الإنساني في بضع سنين. ونخرج من هذا بأن الجسم الإنساني ليس كهيكل، وإنما كالنهر الجاري، أي أنه (عمل مستمر) ومن ثم تبطل جميع النظريات القائلة بأن علة الموت هي وهن الجسم أيام الطفولة أو الشباب قد خرجت من الجسم منذ زمن طويل، ولا معنى لأن نجعلها سبب الموت، فسبب الموت موجود في مكان آخر، وليس في الأمعاء والأنسجة البدنية والقلب.
ويدعي بعض العلماء أن الأنسجة العصبية هي سبب الموت لأنها تبقي في الجسم إلى آخر الحياة ولا تتجدد، ولو صح هذا التفسير القائل بأن النظام العصبي هو نقطة الضعف في الجسم الإنساني فمن الممكن أن نزعم أن أي جسم خال من (النظام العصبي) لابد أن يحيا عمراً أطول من الأجسام ذات النظام العصبي، ولكن المشاهدة العلمية لا تؤيدنا، فإن هذا النظام لا يوجد مثلاً في الأشجار، وبعضها يعيش لأطول مدة، ولكن شجرة القمح التي لا يوجد بها هذا النظام العصبي لا تعيش أكثر من سنة، وليس في كائن (الأميبا) أكثر من نصف ساعة، ومقتضى هذا التفسير أيضاً أن تلك الحيوانات التي تعد من (نسل أعلى) والتي تتمتع بنظام عصبي أكمل وأجود، لابد أن تعيش مدة أطول من تلك التي هي أحقر نسلاً وأضعف نظاماً ولكن الحقائق لا تؤيدنا في هذا أيضاً، فإن السلحفاة والتمساح وسمكة (باتيك) أطول عمراً من أي حيوان آخر. وكلها من النوع الثاني حقير النسل ضعيف النظام) (18).
وما دام في جسم الإنسان استعداداً للبقاء والخلود، وليس فيه أي مكمن مبدئياً للموت، وما دام الإنسان أبدياً على الصعيد النظري والعلمي، فلماذا يموت الإنسان السليم الذي لا يعترضه عارض خارجي يسبب له الموت والفناء؟
إن الجواب الوحيد والواقعي هو أن الموت يأتي بقرار من اللَّه خالق الإنسان والذي يحدد للإنسان أجله وإقامته في الحياة (وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا)(19).
ولما كانت مسألة الموت متعلقة بقرار اللَّه سبحانه وتعالى ومشيئته، فإن حكمته هي التي تحدد مسافة عمر كل فرد حسب الحكمة والمصلحة.
فقد تقتضي حكمة اللَّه تعالى مصادرة حياة شخص وإنهاء إقامته في الدنيا وهو في عهد الطفولة أو ريعان الشباب…
وقد تقتضي حكمته جلّ وعلا استمرار حياة شخص ما لمئات السنين والأعوام.. كما يتحدث القرآن عن حياة نبي اللَّه نوح عليه السلام فيقول: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا)(20) أي 950 سنة.
من هنا تبدو لنا قضية الإمام المهدي بعيدة عن الغرابة والاستنكار منسجمة مع النظرة العلمية مؤيدة بشواهد التاريخ.
وحتى لو لم تسعفنا النظرية العلمية بأدلة مقنعة، أو لم يقدم لنا التاريخ نماذج مشابهة، فيمكننا أن نلجأ في تفسير هذه الظاهرة (إطالة عمر الإمام المهدي) إلى قانون الإعجاز الإلهي والذي تنسحب أمامه جميع القوانين الطبيعية المألوفة ونترك له المجال ليتصرف بحرية لإنجاز أي قضية تتعلق بها حكمة السماء وتصطدم معها سنن الحياة المعروفة.
وهذه حقيقة لا يناقش فيها المؤمن بشرائع السماء فحماية إبراهيم الخليل من النار المضطرمة التي أُلقي في أتونها، وولادة مريم بعيسى، وتصلب ماء البحر لموسى لها قضايا تؤكد الكتب السماوية حدوثها مع تعارضها المبدئي للقوانين الثابتة.
إلى متى؟
كلما أوجعت الإنسان سياط الظلم، وأرهقته عهود الجور والطغيان، وسلبت كرامته ظروف الفساد والانحراف.. شحّ بصره واشرأب عنقه تجاه الإمام المنقذ صاحب العصر والزمان.. وتوجه إليه من أعماق نفسه، وأطلق آهات الاستغاثة.. ورفع أنات الشكوى وآهات الألم.. يستعجل ظهور الإمام المنقذ..
وكلما شاهد المؤمن مظاهر الكفر والنفاق، ورأى تكاتف أنظمة الجور على سحق مبادئ الإسلام، وأزعجته معاملة الكبت والإرهاب التي يعيشها المؤمنون المخلصون في ظل سلطات الانحراف…
كلما حدث ذلك التجأ المؤمن إلى اللَّه يدعوه ويطلب إليه الإسراع في خروج أمل الإنسانية وإمام الحق صاحب العصر والزمان..
فتارة تكون آهات الاستغاثة على شكل دعاء يتوجه به المؤمن إلى ربه الحكيم جلّ وعلا لينجز وعده بإظهار دين الحق والعدل وخروج إمام العصر والزمن:
(اللهم إنا نشكو إليك فقد نبينا -صلواتك عليه وآله- وغيبة إمامنا، وكثرة عدونا، وقلة عددنا، وشدة الفتن بنا، وتظاهر الزمان علينا، فصلِّ على محمد وآله محمد، وأعنا على ذلك بفتح منك تعجله، وضرّ تكشفه، ونصر تعزه، وسلطان حق تظهره، ورحمة منك تجللناها، وعافية منك تلبسناها برحمتك يا ارحم الراحمين) (21).
وفي دعاء آخر تمتزج فيه مآسي الواقع بآمال المستقبل المشرق ويختلط فيه الطلب من اللَّه بالاستثارة المباشرة للإمام المنتظر..
(هل إليك يا بن أحمد سبيل فتلقى؟
هل يتصل يومنا منك بغده فنحظى؟
متى نرد مناهلك الروية فنروى؟
متى ننتجع من عذب مائك فقد طال الصدى؟
متى نغاديك ونراوحك فتقرّ منا عيوننا؟
متى ترانا ونراك وقد نشرت لواء النصر؟
أترانا نحف بك وأنت تؤم الملأ وقد ملأت الأرض عدلاً وأذقت أعداءك هواناً وعقاباً، وأبرت العتاة وجحدة الحق وقطعت دابر المتكبرين واجتثثت أصول الظالمين، ونحن نقول الحمد للّه رب العالمين…
اللهم أنت كشّاف الكرب والبلوى، وإليك أستعدي فعندك العدوى، وأنت رب الآخرة والأولى، فأغث يا غياث المستغيثين عبيدك المبتلى، وأره سيده يا شديد القوى، وأزل عنه به الأسى والجوى، وبرّد غليله يا من على العرش استوى، ومن إليه الرجعى والمنتهى.
اللهم ونحن عبيدك التائقون إلى وليك، المذكر بك وبنبيك خلقته لنا عصمة وملاذاً، وأقمته قواماً ومعاذاً وجعلته للمؤمنين منا إماماً، فبلغه منا تحية وسلاماً) (22).
الهوامش
(1) الإمام المهدي، علي محمد علي الدخيل. (2) الغيبة الصغرى، للسيد محمد الصدر، ص227. (3) سيرة الأئمة وتأسيس الشيعة لعلوم الإسلام. (4) جمع العلامة الصافي في كتابه القيم (منتخب الأثر) ما يزيد على ثلاثمائة حديث تدل على أن الأئمة بعد الرسول صلى اللَّه عليه وآله اثنا عشر.. من مختلف صحاح الحديث ومجاميعه ومسانيده. (5)منتخب الأثر، ص322. (6) منتخب الأثر، ص341. (7) المصدر نفسه، ص343. (
المصدر نفسه، ص343. (9) الإمام المهدي، ص126. (10) منتخب الأثر، ص342. (11) المصدر السابق، ص342. (12) المصدر السابق، ص344. (13) الإمام المهدي، ص127. (14) المصدر السابق، ص127. (15) منتخب الأثر، ص355. (16) المصدر السابق، ص356. (17)الإمام المهدي، ص132. (18) الإسلام يتحدى، ص80. (19) سورة المنافقون، الآية 11. (20) سورة العنكبوت، الآية 14. (21) دعاء الافتتاح. (22) دعاء الندبة.