عدد المساهمات : 132 نقاط : 398 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 16/08/2013
موضوع: هناك انسجام بين الامثال القرآنية والبيئة؟ الجمعة سبتمبر 20, 2013 6:24 pm
لا شكّ أنّ كلّ خطيب يتأثر بالظروف التي يعيش فيها، وبسهولة يمكن فرز كلام المدني عن القروي، وكلامهما عن كلام البدوي، وما ذاك إلاّ لاَنّ البيئة تُعدّ أحد الاَضلاع الثلاثة التي تُكوّن شخصية الاِنسان ، و من هذا الجانب أصبح بإمكان المحقّق الخبير بالتاريخ أن يميز الشعر الجاهلي عن الشعر في العصر الاِسلامي، و الشعر في العصر الاَموي عن الشعر في العصر العباسي، وما هذا إلاّ نتيجة انعكاسات البيئة على التراث الاَدبي، ولكن القرآن بما أنّه كلامه سبحانه قد تنزّه عن هذه الوصمة، لاَنّ الله سبحانه خالق كلّ شيء فهو منزَّه من أن يتأثر بشىء سواه. ومع ذلك كلّه نزلت الاَمثال القرآنية لهداية الناس ولذلك رُوعيَ فيها الغايات التي نزلت لاَجلها، فنجد ان الطابع المكي يعلو هامة الاَمثال المكية، والطابع المدني يعلو هامة الاَمثال المدنية. أمّا الاَمثال المكية، فكانت دائرة مدار معالجة الاَدواء التي ابتلي بها
المجتمع المكى لا سيما وانّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) كان يجادل المشركين ويسفّه أحلامهم ويدعوهم إلى الاِيمان بالله وحده، وترك عبادة غيره، والاِيمان باليوم الآخر، ففي خِضمّ هذا الصراع يأتي القرآن بأروع مثل ويشبّه آلهتهم المزعومة التي تمسّكوا بأهدابها ببيت العنكبوت الذي لا يظهر أدنى مقاومة أمام النسيم الهاديَ، وقطرات المطر ، وهبوب الرياح. يقول سبحانه: (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَولياء كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتّخَذَتْ بَيتاً وإِنَّ أَوهَنَ الْبُيُوتِ لَبيتُ العَنْكَبُوتِ لو كانُوا يَعْلَمون ). (1) فقد شبّه آلهتهم التي اتخذوها حصوناً منيعة لاَنفسهم بخيوط العنكبوت، وبذلك صغّرهم وذلّلهم. كما أنّه سبحانه في آية أُخرى شبّه آلهتهم بالذباب، وقال: (يا أَيُّهَا النّاس ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا له إِنَّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً ولَوِ اجْتَمَعوا لَهُ وإن يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطّالِبُ وَالْمَطْلُوب).(2) فقد كانت قريش تعبد 360 إلهاً يطلونها بالزعفران فيجفّ، فيأتى الذباب فيختلسه فلا يقدرون عن الدفاع عن أنفسهم، ففي هذا الصدد، قال سبحانه: (ضعف الطالب والمطلوب )أي الذباب والمدعوّ . فأي مثل أقرع من تشبيه آلهتهم بهذه الحشرة الحقيرة.ولقد مضى على الناس منذ ضرب لهم كتاب الاِسلام هذا المثل أربعة عشر قرناً، وما يزال المثل القرآني يتحدَّى كل جبروت الغزاة وعبقرية العلماء، وما يزال على الذين غرّهم الغرور بما حقّق إنسان العصر الحديث من معجزات العلم، أن ينسخوا ذلك، بأن ____________ 1 ـ العنكبوت:41. 2 ـ الحج:73.
يجتمعوا فيخلقوا ذباباً، أو يستنقذوا شيئاً سلبتهم إيّاه هذه الحشرة الضئيلة التي تقتلها ذرّة من هواء مشبع بمُبيد الحشرات، وتستطيع مع ذلك أن تسلب مخترع المبيد حياته، بلمسة هيّنة خاطفة تحمل إليه جرثومة داء مميت.(1) هذا في مجال الردِّ على عبادتهم للاَوثان والاَصنام، أمّا في مجال ركونهم إلى الدنيا والاِعراض عن الآخرة، يستعرض مثلاً يشير فيه إلى أنّ الدنيا ظل زائل وليست خالدة، قال سبحانه: (إِنَّما مَثَلُ الحَياة الدُّنيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الاَرض مِمّا يَأْكُلُ النّاسُ وَالاَنْعامُ حَتّى إِذا أَخَذَتِ الاَرْضُ زُخْرُفَها وَ ازّيّنَتْ وَظَنّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَليها أَتاها أَمْرُنا لَيلاً أو نَهاراً فَجَعَلْناها حَصيداً كَأنْ لَمْ تَغْنَ بِالاَمْسِ كَذلِكَ نُفَصّلُ الآياتِ لِقَومٍ يَتَفكَّرُون ). (2) هذا بعض ما يمكن أن يقال حول الاَمثال التي نزلت في مكة. وأمّا الاَمثال التي نزلت في المدينة، فقد نجد فيها الطابع المدني لاَجل انّها بصدد علاج الاَدواء التي ابتلي بها المجتمع يومذاك وهي الاَدواء الخلقية مكان الشرك والوثنية، أو مكان إنكار الحياة الاَُخروية، فلذلك ركّز الوحي على معالجة هذا النوع من الاَدواء بالتمثيلات التي سنشير إليها. فقد كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مهجره مبتلياً بالمنافقين الذين كانوا يبطنون الكفر ويظهرون الاِسلام بغية الاِطاحة بالحكومة الاِسلامية الفتيّة، وفي هذا الصدد نرى أنّ الاَمثال المدنية تطرّقت في آيات كثيرة إلى المنافقين و بيّنت خطورة موقفهم على الاِسلام والمسلمين، فتارة يضرب الله سبحانه لهم مثلاً بالنار وأُخرى بالمطر، يقول سبحانه: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوقَدَ ناراً فَلَمّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ____________ 1 ـ الصورة الفنية في المثل القرآني: 99، نقلاً عن كتاب "القرآن وقضايا الاِنسان" لبنت الشاطىَ. 2 ـ يونس:24.
ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ في ظُلماتٍ لا يُبْصِرُون صُمّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُون أَوْ كَصَيّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ المَوتِ وَاللهُ مُحيطٌ بِالكافِرين ). (1) كان المجتمع المدني يضمُّ في طيّاته طوائف ثلاث من اليهود وهم: بنو قينُقاع، وبنو النضير، وبنو قُريظة؛ وقد جبلوا على المكر والحيلة والغدر ، وكانوا يقرأون سمات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في توراتهم، ويمرّون عليها مرار الاَمي الذي لا يجيد القراءة والكتابة، وهذه السمة أدت إلى أن يشبّههم سبحانه بالحمار الذي يحمل أسفاراً قيّمة دون أن يستفيدوا منها شيئاً، يقول سبحانه: (مَثَلُ الّذِينَ حُمّلُوا التَّوراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ القَومِ الَّذينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي القَومَ الظالِمين ). (2) وأمّا المسلمون الذين عاصروا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فكانوا بحاجة إلى هداية إلهية تصلح أخلاقهم، فقد كان البعض منهم ينفقون أموالهم رئاءً دون ابتغاء مرضاة الله، أو ينفقونها بالمنّ والاَذى، فنزل الوحي الاِلهي بمثل خاص يبيّن موقف المنفق في سبيل الله، والمنفق بالمنِّ والاَذى أو رئاء الناس، قال سبحانه: (مَثَلُ الَّذينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ في سَبيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مائةُ حَبّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَليم ). (3) وقال سبحانه: (يا أَيُّها الَّذينَ آمَنُوا لاتُبْطِلُوا صَدقاتِكُمْ بِالمَنّ وَالاَذى كَالّذي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النّاسِ وَلا يُوَْمِنُ باللهِ وَاليَومِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفوانٍ عَليه ____________ 1 ـ البقرة:17ـ 19. 2 ـ الجمعة:5. 3 ـ البقرة:261.
تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَركَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ على شَىءٍ مِمّا كَسَبوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقومَ الكافِرِين ). (1) هذه إلمامة خاطفة لملامح الاَمثال القرآنية التي نزلت قبل الهجرة وبعدها، وسيوافيك البحث في تلك الاَمثال عند تفسير الآيات واحدة تلو الاَخرى.