عدد المساهمات : 58 نقاط : 178 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 20/09/2013
موضوع: فضل قراءة سورة الكوثر:2 الثلاثاء أكتوبر 22, 2013 3:20 am
لماذا خصصنا الكوثر بأمور الخير:
والمقصود بالكوثر ليس أية كثرة كانت، ولو لأمر عادي، فإن الرمل ـ مثلاً ـ كثير، لكنه ليس مقصوداً قطعاً، لأنه تعالى في مقام الامتنان على رسول الله (صلى الله عليه وآله) بهذا العطاء، بهدف إظهار الكرامة له، وذلك يتقضي أن يكون ما يعطيه له أمراً محبوباً ومرغوباً فيه، ويسعى إليه الإنسان وينسجم مع رغباته، وطموحاته، وآماله؛ كما أن المقصود ليس هو كثرة المال ولا غيره مما هو زينة الحياة الدنيا، لأن النبي (صلى الله عليه وآله) لم يكن يحب المال أو المقام الزائل؟ بل كان يحب ما هو أغلى، وأعلى، وأسمى، وأهم من هذه الدنيا، وأشرف منها.. وإذا كان علي (عليه السلام) ـ وهو تلميذ النبي (صلى الله عليه وآله) ـ يقول: «إن دنياكم هذه أهون عندي من عفطة عنز»، فهل يعقل أن يكون النبي (صلى الله عليه وآله) ـ وهو مربى علي (عليه السلام) ـ محباً لها، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ /صفحة 51/ ومتعلقاً بها، وهل يمكن أن يكون (صلى الله عليه وآله) على خلاف سائر الأولياء فضلاً عن الأنبياء، فيما عرفناه من حياتهم وسيرتهم، وأهدافهم، وتعاليمهم. هذا ونبينا الأكرم هو الأفضل، والأعظم من بينهم. إن المراد بالكوثر لابد أن يكون أمراً ينسجم مع أهداف النبي (صلى الله عليه وآله)، ومع ما كان يهتم به، ويفكر فيه، ويطمح له، كسائر الأنبياء، والأولياء، وهو الخير كل الخير في الآخرة، والخير في الدنيا إذا كان يؤدي ويوصل إلى خير الآخرة. وقد أعطاه الله ذلك. وليس هو زينة الحياة الدنيا قطعاً. فالكوثر إذن يراد به: مصدر الكثرات التي هي من هذا السنخ، وهذا النوع، دون سواها. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ /صفحة 52/ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ /صفحة 53/ تفسير قوله تعالى:
﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ /صفحة 54/ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ /صفحة 55/ صفات الألوهية في من يعطي الكوثر:
بما أن الذي يعطي هذا النوع من الكثرات، لا يمكن أن يكون عاجزاً، ولا ناقصاً، ولا محتاجاً إلى غيره، ليدبر أمره وشؤونه، وليعطيه القدرة، وليمنحه الحياة، وليرفع نقصه وعجزه بل لا يمكن إلا أن يكون إلهاً مستحقاً للعبادة. كما أنه لابد أن يكون حكيماً عالماً، مدبراً رحيماً، خالقاً رازقاً، جامعاً لكل شؤون الربوبية يستحق الشكر على هذا العطاء العظيم، وهذا يعني أن هذا الخطاب لابد أن يعتبر رداً قوياً على الذين يتشبثون بهذه الأصنام العاجزة، والفاقدة للعقل، وللقدرة، وللتدبير، وللحياة، وللعلم، ولكل شيء. ولا يمكن أن تجد فيها أي خير، أو أي كمال، بل هي محض النقص، والفاقدية في الدنيا، فكيف تكون مصدراً للخير وللواجدية في الدنيا والآخرة معاً. فآية الكوثر إذن تستبطن الاستدلال على واجدية ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ /صفحة 56/ المعطي لكل الصفات التي تؤهله للعطاء، ولكنها ليست كسائر صفات الذين يُعطون، هذا الذي يعطي مصدر الكثرات لابد أن يملك صفات الألوهية والربوبية معاً، لأن الرب الذي يعطي، لاسيما إذا كان هذا العطاء هو الكوثر «أي مصدر الكثرات» لابد أن يكون غنياً بذاته، والغني لابد أن يكون عزيزاً، والعزيز يكون قوياً، والقوي حكيماً، والحكيم عادلاً، وهكذا ولابد أيضاً أن يكون منزهاً عن النقائص مثل الضعف والظلم «وإنما يحتاج إلى الظلم الضعيف»، ومن هنا قلنا إن الرب الذي يعطي هذا النوع من العطاء لابد أن يكون هو الإله المستجمع لكل صفات الكمال: ككونه خالقاً، رازقاً، قادراً، قدرة شاملة، في الدنيا والآخرة، حياً، قيوماً، عالماً، مدبراً، حكيماً.. إلى آخر ما هنالك. فعلام إذن يتشبثون بعبادة الأصنام، ويكيدون لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، ويحقدون عليه، ويتنقصونه، ويشنأونه من أجلها، ومن أجل تأكيد دورها في حياة الإنسان؟!! ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ /صفحة 57/ فإذا اتضح ذلك نفهم لماذا جاء الأمر له بالصلاة بالخصوص، فإن الصلاةة هي أبرز مظاهر العبودية والعبادة والشكر الأتم الله سبحانه، لأن قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾ دليل على استحقاق المعطي للعبادة، ويكون قوله تعالى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ..﴾ بمثابة النتيجة لتلك المقدمات.. لماذا لم يقل: فاعبد الله؟
وقد يقال: لماذا قال: ﴿فَصَلِّ..﴾، ولم يقل فاعبدني، فإن الصلاة من جملة العبادة؟ ونقول: إن العبادة قد تكون عن خوف، وقد تكون عن طمع، وقد تكون عن شكر وامتنان، أو عن إحساس بالاستحقاق. فلو قال هنا: فاعبد، لم يعرف جهة هذه العبادة، فهل هي لأجل استحقاق المعبود لها؟ أم هي لأجل الشعور بالامتنان؟ أم هي لأجل شكر نعم أنعمها؟ بل ليس في كلمة العبادة إشارة إلى النعم أصلاً، وإنما هي تشير إلى الألوهية فقط. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ /صفحة 58/ لكنه حين قال: ﴿فَصَلِّ..﴾. فإن الصلاة تستبطن العبادة، وتستبطن أيضاً الشكر في ثلاثة اتجاهات: 1ـ الشكر في القلب، بمعنى الشعور بالامتنان وبالعرفان بأنك مدين لهذا الإله الذي تفضل عليك، وغمرك بنعمه. 2ـ الشكر باللسان، بمعنى الثناء على المنعم، لأجل تلك النعم. 3ـ الشكر بالجوارح، وهو العبودية، والخضوع، والخدمة وما أشبه ذلك من مظهرات الانقياد، والاستسلام أمام المعبود والمبادرة إلى مواقع رضاه سبحانه وتعالى. فإذا كان المقام مقام إعطاء لمصدر الكثرات لكل ما هو من سنخ الخير والخيرات، مما ينسجم مع أهداف رسول الله (صلى الله عليه وآله) التي هي أسمى من الحياة الدنيا، فإن المناسب أن يكون الشكر شاملاً أيضاً لجميع مظاهره: للشكر في القلب، واللسان، والجوارح. إذن، فالمناسب في مثل هذا المقام هو التعبير ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ /صفحة 59/ بـ «صَلِ» لأن مسارها الطبيعي هو قضاء حق الربوبية لأنها العبادة الشاكرة، التي هي أسمى من عبادة الخائف من العقاب والطامع في الثواب. وقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنتك، لكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك»(1). وعنه (عليه السلام): «إن قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وإن قوماً عبدوا الله رهبة، فتلك عبادة العبيد، وإن قوماً عبدوا الله شكراً، فتلك عبادة الأحرار»(2). العبادة الشاكرة:
إن الله تعالى بعد أن تحدث عن إعطاء رسوله (صلى الله عليه وآله) أتم النعم، وأكملها، وأشملها، فرّع الأمر بالصلاة على هذا الإعطاء، وهو ترتب طبيعي، يدركه الإنسان العاقل الحكيم، المتوازن في تفكيره، وفي تصرفاته، وفي ـــــــــــــــ (1) البحار ج67 ص186و197و234 وج69 ص278 وج38 ص14. (2) نهج البلاغة ج3 ص205و206، فصل قصار الجمل رقم237، مطبعة الاستقامة. والبحار ج67 ص196و2121 وراجع ص236و255 وج38 ص14 وج75 ص69و117و187. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ /صفحة 60/ وعيه، وفهمه للأمور، حيث يجد نفسه منساقاً لأن يقف موقف العابد لهذا الإله المتصف بالعزة والعظمة والهيمنة والغنى، والقهارية، ثم أن يقف موقف الشاكر لمقام الربوبية على هذا العطاء العظيم، وبما أن الصلاة هي التي تعطي مفهوم العبادة للإله ومفهوم الشكر له في تجلياته العبادية، فقد جاء التعبير بكلمة: «فَصَلِ» منسجماً مع السياق، ومع حدود وآفاق المعنى المراد. فظهر أن مضمون الآية الأولى الذي هو من تجليات الألوهية المستبطنة في الربوبية التي ظهرت بهذا العطاء قد تبلور في الآية الثانية، وعمَّق مضمونها في وعي الإنسان؛ من حيث كون الصلاة تجسيداً للعبادة في معنى الألوهية. وكانت هذه العبادة هي الشاكرة في أجلى مظاهر الشكر للعطاء الربوبي. وقد أكّد ذلك أن النعمة الشاملة المعطاة بذاتها تؤكّد هذا الاستحقاق للشكر. وقد جاء هذا الأمر بالصلاة منسجماً كل الانسجام مع مقتضيات هذين المعنيين، مادام أن الصلاة للربّ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ /صفحة 61/ تستبطن إخلاص الشعور القلبي بالامتنان له سبحانه وتعالى، من دون أن يكون هناك أي شرك في هذه العبادة، المشتملة على الثناء على الله من أول كلمة فيها: ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ..﴾. فإن كل هذا وسواه إضافة إلى ما في الصلاة من تعظيم له سبحانه، في مثل: «الله أكبر»، ومن تنزيله في مثل: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ وبِحَمْدِهِ.. سُبْحَانَ رَبِّيَ الأعْلَى وبِحَمْدِهِ.. وغير ذلك من مظاهر الشكر لله سبحانه، بالثناء عليه بما يستحقه، في نصوص إلهية خالصة في معانيها ومراميها.. لا تشوبها أية شائبة، ولا تعاني من أيّ إخلال بحقيقة الصفات، التي يصحُّ نسبتها إليه تعالى، وينبغي أن تطلق عليه بما لها من معنى حقيقي دقيق وعميق. عبادة الخائفين والطامعين:
أضف إلى ما تقدّم أنّ الصلاة تعني الخضوع العملي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ /صفحة 62/ الجوارحي، بما فيها من سجود وركوع، ووقفة، وجلسة العبد الذليل. وهذا بالذات هو الذي يناسب هذا المقام؛ لأنّ عبادة الطامعين بالثواب، وكذلك عبادة الخوف من العقاب، لا تناسب هذه النعم، ولا تشير إليها، ولا إلى استحقاق العبادة، بل النعم هي التي تشير إلى استحقاق العبادة لمن يعطيها، من حيث استجماعه لصفات الألوهية الظاهرة من خلال الربوبية. بالإضافة إلى أن صلاة الخائف وعبادته، لا تناسب هذا العطاء العظيم، مادام أن الإنسان قد يخاف من غير الله. كما أن عبادة الطامع تعني أن العابد يرى أن الله لم يتم نعمته عليه، وذلك يمثل نوعاً من الابتعاد عن الموقع الرضي والحفي منه تعالى. ولأجل ذلك استبعد أمير المؤمنين (عليه السلام)، هذين النوعين فقال: «إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك، ولكني وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك». ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ /صفحة 63/ وهذه هي العبادة الحقيقية السامية.. كما أن عبادة الطامعين، وعبادة الخائفين، لا تستبطن الإشارة إلى استجماع الذات الإلهية للكمالات: وأقصد بها صفات الجمال والجلال. مثل: القادر، والخالق، والرازق، والعالم والحكيم، والرحمن والرحيم، والحي والقيوم.. الخ، ومثل كونه تعالى منزهاً عن أي نقصٍ، أو ظلمٍ، أو جهلٍ، أو عجزٍ، أو ضعفٍ وما إلى ذلك. أما الصلاة فهي التي تذكر الإنسان بالأمور الأساسية في العقيدة، والتي من شأنها أن تمنحه الثبات والاستمرار في خط الاستقامة، وفق ما يرضي الله، لأنها فضلاً عن تذكيرها إياه بالدار الآخرة، فإنها تذكره أيضاً بالله، وبصفات ذاته، أعني به صفات الجمال والجلال، حسبما ألمحنا إليه آنفاً. وما عليك إلا أن تراجع نصوص الصلاة؛ فإنك ستجدها صريحة في ذلك كله.. وكفى دلالة على التَّنزيه المطلق للذات الإلهية عن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ /صفحة 64/ كل نقص، وظلم، وجهل، وغير ذلك أنك تقول في كل ركوع وسجود: سُبْحَانَ رَبِّيَ الأعْلَى وبِحَمْدِهِ، وسُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ وبِحَمْدِهِ. وليس من قبيل المصادفة، أن تكون سورة الفاتحة، هي السورة التي تجب قراءتها في كل صلاة، أكثر من مرّة، حتى إنه لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب، لأنّها قد اشتملت على كلّ العناصر الأساسية التي تدفع الإنسان للاستمرار بالإحساس بألوهيّته تعالى، وبرقابته، وهيمنته، وتفضّله. لماذا قال: لربّك؟
وأما لماذا قال: «لِرَبِكَ»، ولم يقل: الله سبحانه وتعالى؟ فلعلَّه لأجل: أن الربوبية تعني استمرار الرعاية الإلهية وتعاهد المخلوقين، وحفظهم، وتدبير أمورهم، من موقع الحكمة، والعلم، والمحبة. كما أن هذا الرب المدبِّر لأمورهم، يدفع العوادي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ /صفحة 65/ عنهم، ويحبوهم بكل خير، ويدفعهم إلى كل صلاح، ويحرص على تكاملهم وتناميهم بطريقة سليمة وحكيمة. والاستمرارية داخلة أيضاً في موضوع هذه الرعاية، إذ بدونها لا يكون هناك تربية ولا تكامل.. ولا معنى لأن تطلق كلمة: «رب» على من يتصدى إلى عمل ما كحفظ ورعاية مخلوق بعينه للحظات قصيرة، فإن من يرعى عائلة لمدة يوم واحد في حياته؛ مثلاً، لا يصبح رباً لها، وإنما يقال له: «رب»؛ إذا كان هناك استمرار لهذه الرعاية، التي تفيد في التكامل، والتنامي التدريجي لهم. فقوله تعالى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ تستبطن هذه الاستمرارية من جهة، وتستبطن أيضاً: أن ثمة رعاية حانية، من موقع المحبة والرحمة، وترتبط بالناحية المشاعرية، إن صح التعبير، من جهة أخرى. فمن يغرس شجرة، مثلاً، أو يزرع بعض النبات والأزاهير، فإنه لا يزرعه من موقع الرحمة له، بل ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ /صفحة 66/ يزرعه، ويحافظ عليه، ويريد له أن يتنامى ويصل إلى درجة النُضج، لإحساسه بحاجته إليه لطعامه، او إلى ظل الشجرة، أو ثمرتها، أو جمالها الطبيعي، وليس للرحمة، والحنو، والمحبة أي أثر في ذلك. وحتى حينما يربِّي الإنسان الدابة؛ فيقال له: «رب الدابة»، فإن هذا الإطلاق فيه نوع من التجوز، لأنه لا يريد لها أن تتكامل، بل هو يربيها ويحفظها من أجل نفسه، ولكي تقضي حاجته، وتزيد من قدراته هو، لا أكثر ولا أقل، فهي أشبه بالسيارة التي يقتنيها. أما التربية الإلهية للبشرية، فهي تبدأ بالرحمة، وتنتهي بها ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾. إن التربية الإلهية الحقيقية تستبطن الحرص على أن يتكامل الطرف الآخر ليصبح غنياً، فإن الله سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى غيره، بل كل شيء محتاج إليه.. وهكذا حالنا حين نهتم بتربية أولادنا، فإننا نريد لهم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ /صفحة 67/ أن تغنى أنفسهم بالكمالات، وأن تبتعد عنهم النقائص والعثرات والمشكلات، وبذلك يتضح أنه تعالى لو كان قال: «فَصَّلِ لله..» فذلك وإن كان يشير إلى صفات الجمال والجلال في الذات المقدسة، ولكنه لا يشير إلى نوع الصلة والعلاقة به سبحانه، وأنها صلة المربي الرحيم، الذي يحب لنا أن نتكامل ونتنامي باستمرار، لتغني أنفسنا بالكمالات، لا لحاجة منه سبحانه إلى ذلك. فالنعمة المعطاة للنبي (صلى الله عليه وآله)، وهي: «الكوثر» ليست أمراً عارضاً، منحه الله إياه مرة واحدة، وانتهى الأمر وإنما هي في سياق تربيته ورعايته له، والحفاظ عليه، وتناميه، وتكامله.. لربك مع كاف خطاب المفرد:
وعن كاف الخطاب في قوله تعالى: ﴿.. لِرَبِكَ..﴾ نقول: إنه تعالى قد جاء بكاف الخطاب للمفرد، ولم يقل: للرب أو لربكم، لأن الأمر يرتبط بشخص هذا الإنسان، بما له من فردية وتعيُن، تتجسد فيه المحبة، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ /صفحة 68/ والارتباط الحقيقي والمباشر، وليس الأمر قد جرى على وفق السنن الإلهية العامة، التي لا تعني الأفراد في خصوصياتهم. بدأ بالألوهية وانتهى بالربوبية:
ويرد هنا سؤال، وهو: أنّ من يكون مصدر الكثرات، فلابد من أن يكون مستجمعاً لصفات الألوهية، فيستحق العبادة. هذا بالإضافة إلى أن ثمة إلماحاً إلى مقام العزة والعظمة، من خلال التعبير بـ «إنّا» و «أعطينا»، بصيغة الجمع. فكان من المناسب أن يقول: «صَلِّ لله» أو «فَصَلِّ لنا»؛ فلماذا انتقل من الحديث عن الألوهية إلى الحديث عن الربوبية، وقال: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ..﴾؟ وللإجابة على هذا السؤال نقول: أشرنا في السابق، إلى أن الإلماح إلى الألوهية قد جاء في سياق الحديث عن الربوبية المتسجدة بهذا العطاء الذي هو تجسيد للحكمة والرحمة، والنعمة والتدبير وما إلى ذلك.. فاحتاج ذلك إلى تجسيد الشكر بأجلى مظاهره وأتمها في الفعل العبادي لمستحق العبادة من حيث أن الصلاة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ /صفحة 69/ تمثل شكراً لله في مظاهره الثلاث المتقدم ذكرها على هذا العطاء. وحيث إن التأكيد على ناحية الألوهية قد جاء بطريقة إعطاء نعمة جلَّى، لا يعطيها إلا الله سبحانه، بما له من صفات. وبما أن العطاء الذي قصد به إغناء المعطى قد نشأ من موقع ربوبيته تعالى له، وبما هو يرعاه رعاية فعلية. فإن ذلك يُبطل ما يتخيله الذين يعبدون غير الله من الأصنام أو غيرها، حيث يرون أنها هي التي ترعاهم رعاية مباشرة، وتقضي لهم حاجاتهم، وتشفي مرضاهم، وتحل مشكلاتهم، وتقضي ديونهم، وتواكب حركتهم العملية، وتقربهم إلى الله زلفى، كما جاء في القرآن الكريم. فالله سبحانه يرد هنا إلى من يعتقد هذا الاعتقاد، ويوجههم إلى الربوبية الحقيقية التي ترعى الإنسان، وتدبر أموره، وتحل مشاكله. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ /صفحة 70/ والخلاصة: إن هذا الكوثر الذي أعطاه الله لنبيه، سواء فسرناه بالخير الكثير، أو بمصدر الكثرات، أو بغير ذلك مما يعد نعمة يصلح الامتنان بها؛ فإنه مظهر ربوبي وينفي بصورة واقعية وملموسة أن يكون سواه ـ مما زعموا ـ أرباباً صالحة للتأثير في الحياة، وفي حل المشكلات. النعم تصل الإنسان بالله:
ومن الواضح: أن الله سبحانه وتعالى يريد أن يقرب هذا الإنسان إليه، ويصله به، ليتعامل معه من مواقع القرب هذه تعاملاً حضورياً أما هذه النعم التي يتكرم ويتفضل الله بها عليه، وهذه الرعاية له، فهي صلة الوصل الأولى التي تقربه إلى الله، وتجعله يشعر بوجوده، وحضوره وبرعايته، وبحاجته إليه سبحانه. وعليه أن يصلح علاقته به، ومعه. ومن الناحية الفكرية والتصورية، فإن هذا الإنسان مهما حاول أن يتصور مقام الألوهية، فسيبقى عاجزاً عن ذلك، وستكون محاولاته غير واقعية، وغير مجدية، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ /صفحة 71/ فإن كل ما سيصوره في وهمه، فهو مخلوق له، مردود عليه، والله غيره. وسيكون تأثيره في تحريكه، وإثارة كوامنه الإيمانية محدوداً، يحتاج لإعطائه المزيد من القوة، والإندفاع إلى التماس أنحاء أخرى من المعرفة، تشارك فيها الأحاسيس والمشاعر، وهي تلك التي تتكون من خلال مظاهر ربوبيته سبحانه، ورعايته، وألطافه القريبة التي يتلمس آثارها في مختلف جهات حياته ووجوده، فتكون معرفة الربوبية هي الوسيلة التي يستطيع من خلالها أن يدرك عظمة الألوهية ولو إدراكاً ناقصاً بحسب استعداداته وقابلياته. وهذه المعرفة ـ معرفة الألوهية عن طريق الربوبية ـ هي الأعظم والأقوى في تحريك كوامن وجوده، والأشد تأثيراً باتجاه الانسجام والتناغم مع حركة أهدافه في الحياة الدنيا والآخرة على حد سواء. وكمثال على ذلك نقول: إننا إذا نظرنا إلى أمر الموت والآخرة فإنهما إذا تيقن هذا الإنسان بوجودهما، استناداً إلى دليل العقل أو النقل عن الصادق المصدق، فإن يقيناً ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ /صفحة 72/ كهذا، لا يعدو أن يكون مجرد صورة تبقى في نفسه، لا يكون لها ذلك التأثير القوي في حياته، موقفاً وممارسة، واندفاعاً نحو العمل من أجل الحصول على الأمن في الدار الآخرة، أو على الخير الموعود به. أما لو تلمس الموت أو الحياة الآخرة في الأشياء التي يراها، ويتعامل معها، ويباشرها بأحاسيسه. فإن تأثيره سيكون أقوى وأعمق، والتزامه أشد. وهذا كما لو رأى من يموت، أو ذهب إلى المقابر ليرى ما انتهى إليه أمر الذين من قبله، وحيث يتذكر أصدقاءه الذين فقدهم، وكذلك الحال لو وقع في أخطار تهدد حياته، أو أمراض تخيفه من الموت والآخرة، فإن ذلك يدفعه إلى إعادة حساباته، لتكون منسجمة مع هذا الواقع الذي عاشه، وتلمسه وأحس به. إننا حين نصدق أن هناك موتاً وبعده حساب، وعقاب، فإننا نرتدع عن أمور كثيرة في حياتنا، وفي ممارساتنا. ونكون مصداقاً لقول الإمام الصادق (عليه السلام) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ /صفحة 73/ لإسحاق بن عمار: «يا اسحاق خف الله كأنك تراه، وإن كنت لا تراه فإنه يراك»(1). وبذلك يتضح السبب فيما ورد من التاكيد على حضور جنائز المؤمنين، وزيارة قبورهم، وزيارة المرضى حيث إن ذلك يجعلنا نشعر بضعفنا. وبأن هناك أخطاراً تواجهنا، لابد أن نحسب لها حساباتها، وأن ننظر إلى ما هو أبعد من حياتنا الحاضرة هذه. وبعدما تقدم، فإننا نفهم بعمق معنى قوله تعالى: ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ﴾(2). مادام أن الغفلة تستتبع الشعور بالإستغناء عن النصير والمعين، والأمن من الخطر، فكيف إذا كان لا يعتقد بالآخرة من الأساس، فإن الأمر حينئذٍ أشد خطراً وأعظم ضرراًَ. وخلاصة الأمر: إننا بحاجة دائماً إلى الحديث عن ـــــــــــــــ (1) الكافي، ج2، ص68، والبحار ج67، ص355، عنه راجع ص386و390 وج5، ص324 عن ثواب الأعمال ص13 وعن فقه الرضا(عليه السلام). (2) سورة الأنبياء، آية رقم1. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ /صفحة 74/ الزواجر الرادعة عن التواجد في واقع غضب الله الذي هو شديد العقاب. وعن الحوافز التي تجعلنا نعيش الرغبة والاندفاع إلى مواقع الرضا للرب المنعم، والرازق، والشافي، والقادر على حل مشكلاتنا، ورفع نقائصنا، وفي تقوية ضعفنا، فإن ذلك يسهل علينا الانقياد والطاعة لله، والالتزام بأوامره، وزواجره. وتكون صلاتنا له حينئذٍ أكثر إخلاصاً وأشد صفاءً؛ لأن تعلقنا به سبحانه يكون أعظم. وبذلك نستحضر المعاني الصلاتية في قلوبنا، فتخرج صلاتنا عن أن تكون مجرد إسقاط واجب، ولقلقة لسان، وركون، وسجود، وقيام.. عطاء الإعزاز والتكريم:
ثم إن هذا العطاء من الله لنبيه (صلى الله عليه وآله) يستحيل أن يكون لأجل الإملاء له، لأنه النبي الكريم، وموضع كرامة الله، ولأن سياق الآيات نفسه، يشهد بذلك، لأنه تعالى في مقام الامتنان على نبيه (صلى الله عليه وآله) بعطاء يستحق الشكر عليه، وقد جاء على سبيل المحبة، والرعاية، ومن موقع الربوبية. وذلك لعدة جهات: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ /صفحة 75/ ـ جهة الإعزاز. ـ جهة التكريم. ـ جهة التربية، والتنامي، والتكامل، وإعطاء ما يدخل في نطاق نصرته، وتوفير عناصر القوة في حركته، وامتداده في الحياة، وفي المجتمع الإنساني، وذلك: بإعطائه مصدر الكثرات؛ بحيث يصير عبر حصوله على هذا الكوثر منشأ كل خير، في الدنيا وفي الآخرة.. لربك! لماذا؟:
ثم إنه تعالى قد صرح بأن الصلاة لابد أن تكون: ﴿.. لِرَبِّكَ..﴾ وقد كان يمكن أن يقول: ﴿فَصَلِّ.. وَانْحَرْ﴾. ولعل هذا التنصيص قد جاء ليؤكد على لزوم الإخلاص في الصلاة، وخُلوصها عن أي نوع من أنواع الشرك، مهما كان خفياً؛ فإن الشرك أخفى من دبيب النمل، وإن الرياء عبادة لغير الله سبحانه. أما العُجُب فهو عبادة للذات حين يرى الإنسان نفسه فوق مستواها الحقيقي. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ