سؤال:
يسأل العديد من الناس بأنّ المسلمين و استناداً لكتابهم السماوي متفقون على كون نبي الإسلام خاتم الأنبياء و آخر السفراء الإلهيين و المبعوثين لهداية البشرية، و دينه و كتابه آخر الأديان و الكتب السماوية التي أنزلت للمجتمعات البشرية; الآن أخبرونا في أي موضع من القرآن صرح بذلك كي يؤصد بذلك أي طريق للالتباس و الغموض بوجه الأشخاص غير المغرضين.
الجواب:
بادئ ذي بدأ يجب الالتفات إلى أنّ الشرائع السماوية و إن بدت للوهلة الأولى متباينة مع بعضها، فيتصور الإنسان طرح أديان مختلفة و متعددة على البشرية، و لا ترتبط هذه الأديان مع بعضها و لا يوجد حدّ مشترك بينها، لكنّ الحقيقة خلاف ذلك التصور، بل تتحد أركان أول شرعية عرضت على البشر بواسطة النبي نوح (عليه السلام) (1) مع حقيقة الشريعة التي أنزلت على خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله) ، ولديها الكثير من جهات الاشتراك التي جعلتها بصورة دين واحد و متسلسل نال تكامله بمرور الزمن و تكامل المجتمع، و أخيراً طرح بشكل دين جامع أثرى البشرية عن كل أنواع التشريع و القوانين.
من هذا المنظار يعلن القرآن أنّه و منذ اليوم الأول لم يشرع الله تعالى للبشر ديناً سوى دين واحد هو (الدين الإسلامي (2) ، و لن يقبل من أحد إتباع دين غيره (3) .
يخطّي القرآن الكريم من يعتقد أنّ إبراهيم (عليه السلام) بطل التوحيد كان يهودياً أو نصرانياً فيقول: لم يكن إبراهيم إلا مسلماً (4)
بناءاً على هذا، الشرائع السماوية في الحقيقة شريعة واحدة تكاملت من جراء تكامل المجتمعات البشرية و بروز الاحتياجات المتزايدة، و أخيراً عرضت على البشر بصورة دين واحد جامع بواسطة خاتم الأنبياء، و في الحقيقة تكون هذه الأديان نظير الصفوف المختلفة التي تبدأ من الابتدائية و تنتهي بالدكتوراه.
أدلة اختتام النبوة:
تعدّ مسألة اختتام النبوة بالنبي الكريم (صلى الله عليه وآله) من ضروريات المذهب و بديهيات الدين الإسلامي المقدس بنظر علماء و مفكري الإسلام، و يلمس و يعي هذه الحقيقة كل من اتصل أو احتك بالمسلمين أو المجتمعات الإسلامية، و من غير الممكن أبداً أن يعيش المرء في البيئة الإسلامية و لم يتناهى إلى مسامعه موضوع اختتام النبوة و لم يطلع عليها، و هذا دليل على كون هذه المسألة من ضروريات الدين.
لو صرفنا النظر عن ضرورة هذه المسألة و كونها من موارد اتفاق و إجماع المسلمين قاطبةً، لدينا آيات قرآنية تصرح بكون النبي محمد (صلى الله عليه وآله) خاتم الرسل أوضحها الآية التالية: (مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) (5) .
لأجل توضيح مفاد الآية يجب علينا شرح لفظ (خاتم); يطلق الخاتم في اللغة العربية على ما يختم به آخر الرسالة. سابقاً كان ختم الإنسان يستعمل بدل إمضائه، و الآن أيضاً تختم الوثائق و الكتب المهمة بالإضافة إلى إمضائها، و مازال الختم محتفظاً بمكانته في الدوائر الحكومية و السلطات الرسمية.
يعتبر ختم الكتاب أو الوثيقة دليلا على اختتامهما و انتهائهما فضلا عن شهادته على صحة انتساب ذلك الكتاب أو الوثيقة إلى صاحب الختم، و في النتيجة تكون الوثيقة ذات قيمة و اعتبار متى ما وقعت في نطاق الختم و ما وقع منها خارج ذلك النطاق يعتبر لاغياً ولا يمت لصاحب الختم بصلة.
في الزمن السابق كانوا يستخدمون القير أو الطين المخصوص (6) لإغلاق الأوعية الحاوية على العسل و الخل و نظائرها من الوسائل بدل الأدوات المستعملة اليوم، ثم يختمونها للدلالة على بكارتها و عدم لمسها (7) الخلاصة (الخاتم) هو ما تختم به الوثائق و الكتب و المرسولات (
، ولئن سمي الخاتم الذي يلبس في اليد خاتماً فلأجل أنّهم كانوا يستعملونه للختم سابقاً، فكان السلاطين و شيوخ العشائر و أكابر البلاد يختمون كتبهم و رسائلهم بخواتمهم التي كانوا ينقشون عليها أسماء هم عادةً (9)
عندما عزم النبي (صلى الله عليه وآله) على نشر الدعوة و كتب الرسائل لملوك و حكام زمانه ليرسلها بواسطة مبعوثه أمر بإعداد خاتم له تنقش عليه عبارة (محمد رسول الله) و كان يختم جميع رسائله بذلك الخاتم (10) .
بناءاً على هذا ليس الخاتم هو المعنى الأولي لما يلبس في اليد، بل هو تلك الوسيلة التي تختم بها الرسائل و الوثائق وفوهات الأوعية أحياناً، و إن أطلق عليه ذلك أحياناً فلأجل أنّه كان يستعمل في ختم الرسائل و الأوعية.
يطلق اليوم لفظ (ختم) في الدول العربية على أنواع الأختام ـ الأعم من المعدنية و المطاطية ـ التي تمهر بها الكتب و الوثائق الرسمية أو الأختام المستعملة في ختم البيت و المستودع و المؤسسة بالشمع الأحمر.
اتضح من هذا البيان معنى (خاتم الأنبياء)، لأنّ مفاده أنّ محمداً (صلى الله عليه وآله) شخصية اختتمت و أغلقت به أبواب النبوة التي كانت مفتوحةً منذ آدم (عليه السلام) بوجه البشرية، و قد تمّ الفيض الإلهي على أثر استغناء المجتمعات الإنسانية عن نبي و دين جديد، و سوف لن يبعث نبي بعده، و كما يعلن اختتام محتويات الكتاب عن طريق الختم و يُفهم انتهاء مراد الكاتب منها، كذلك أعلن إكمال هذا الفيض الإلهي و انتهائه و اختتام هذه الموهبة الإلهية ببعثة النبي الكريم، و انتهي الغرض من إرسال الأنبياء و الرسل، كأنّ وجوده يشبه الختم على باب النبوة فأوصد بوجه البشر إلى الأبد.
التصرف المرفوض في معنى الخاتم:
التصرف غير الملائم من بعض الفرق الضالة بشأن (خاتم النبيين) يضحك الثكلى، فأظهروا لإغواء أنصارهم أنّ المقصود من لفظ (خاتم) في الآية الشريفة هو ما يلبس في اليد بعينه، و الهدف من تشبيه النبي (صلى الله عليه وآله) بالخاتم بيان منزلته بين الأنبياء، فكما يعدّ الخاتم زينة اليد كذلك يعدّ وجود النبي الكريم (صلى الله عليه وآله) بين الأنبياء زينةً لهم.
إنّ هذا التأويل موهون إلى درجة أنّ نفس واضع هذا المذهب و الحزب اضطر في بعض كتبه إلى التخلي عن هذا التأويل الخاطيو تفسير الخاتم بمعناه الصحيح (11) .
تفسير لفظ (خاتم) بالخاتم الملبوس باليد نوع من الوهم و الخيال و إنما أتي به لخداع البسطاء، و لم يرد في اللغة العربية قط أنّ معنى الخاتم الواقعي هو ذلك، بل و كما قيل بمعنى ما تختم به الوثائق و الكتب، و إن قيل لذلك خاتم أيضاً فلأجل أنّهم كانوا يختمون وثائقهم و رسائلهم به سابقاً.
نحن لا نمتلك الحق أبداً في حال تفسير القرآن أن نختلق معان منا لبعض الألفاظ، بل يجب ان نحذو حذو أصحاب اللغة العربية في استعمالاتهم، في حين أنّ العرب لم يستعملوا لفظ الخاتم كناية عن الزينة نهائياً، فلم يقولوا (فلان خاتم أسرته) و يقصدون أنّه زينتهم، فلئن كان الهدف من وصف النبي (صلى الله عليه وآله) بخاتم الرسل هو بيان منزلته بين الأنبياء و أنّه زينتهم لكان من اللازم الاحتذاء بالاستعمالات الشائعة في هذا المجال فيقال: النبي (صلى الله عليه وآله) تاج و أكليل الأنبياء.
فهم المسلمون على مدى أربعة عشر قرن من هذا اللفظ معنى الاختتام و الانتهاء، و قد استعمل هذا اللفظ في الأحاديث الإسلامية لبيان منزلة النبي (صلى الله عليه وآله) بالنسبة إلى ختمه الرسالات.
يقول الإمام الصادق (عليه السلام): (إنّ اللهَ ختمَ بنبيكُم النبيّينَ، فلا نبىَّ بعدَهُ، و ختَم بكتابِكُم الكُتبَ فلا كتابَ بعدَهُ، و أنزلَ فيهِ تبيانَ كلّ شيء(12)).
تصرف البعض الآخر تصرفاً غير مناسب آخر في لفظ (خاتم) فقالوا: إنّ الخاتم في الآية يعني الختم، لكنّ الهدف من توصيف النبي (صلى الله عليه وآله) (بخاتم النبيين) هو تصديق و أحقية الأنبياء السالفين، لأنّه كما يدل الختم على صحة مضمون و محتوى الكتاب كذلك يشهد نبي الإسلام على صحة و ثبات جميع الأنبياء.
ليس هذا التفسير بأقل و هناً من سابقه، فصحيح أنّ الختم يدل على صحة الكتاب و الرسالة لكن لم يسبق أن استعمل الخاتم في الشاهد و الدليل في اللغة العربية بتاتاً، بحيث لو أمضى الشخص أسفل الرسالة أو شهد على حادثة يقال أنّه (خاتم). زد على ذلك، ليس تصديق الأنبياء من خصوصيات نبينا الكريم، بل يكون كل نبي لاحق مصدقاً للنبي الذي سبقه، بل لجميع الأنبياء قبله، عرّف الله النبي عيسى (عليه السلام) بهذا الشكل: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ) (13).
ضمناً يجب الالتفات إلى أنّ الأدلة القرآنية على ختم النبي الشرائع لا تنحصر في هذه الآية، بل هناك آيات أخرى متعددة تشهد على ذلك، و قد تطرقنا إلى آية واحدة من باب الاختصار فقط.
1 - يمكن أن يكون تصور موضوع كون أول شريعة سماوية طرحت على البشر بواسطة النبي نوح (عليه السلام) مشكلا للبعض فيقولون لأنفسهم: كيف يمكن القول أنّ أول شريعة سماوية عرضت على البشر بواسطة النبي نوح (عليه السلام) ، بينما بُعث قبله أنبياء لهداية البشر؟ لكنّ هذه الأحجية تزول بشكل تلقائي بالالتفات إلى مسألة أنّ إرسال الأنبياء ليس ملازماً لبعث شريعة، لأنّ المراد من الشريعة سلسلة من القوانين الفردية و الاجتماعية التي تسوق الإنسان نحو التكامل المادي و المعنوي; إرسال هكذا شريعة فرع الاستعداد الفكري و الروحي للبشر لاستقبالها، و مع عدم اللياقة لأدراك المفاهيم الدينية و عدم حاجة البشر لجعل القوانين يكون إنزال الشريعة و جعل القوانين لهم لغواً و عبثاً.فعليه كانت برامج الأنبياء قبل نوح (عليه السلام) يسيرة جداً و لا تتجاوز حدود الدعوة إلى المسائل الفطرية التي يدركها كل فرد بطبيعته الإنسانية، فلم يحمل السفراء السماويون رسالةً من الله للبشر نتيجة ضآلة الاستعداد و فقدان الحياة الاجتماعية بين الناس كي تلزم الشارع بتشريع القوانين، و لم تكن هناك شريعة، فكلف الأنبياء بهداية الناس إلى و الإحسان إلى أولى المدركات الإنسانية التي يمكنهم دركها بفطرتهم من قبيل معرفة الله بعضهم و الابتعاد عن الظلم و التجاوز الخ.
2 - (إنّ الدينَ عندَ اللهِ الإسلام) (سورة آل عمران، الآية 19) .
3 - (و مَن يبتغ غيرَ الإسلام ديناً فلن يُقبلَ منهُ) (سورة آل عمران، الآية 85) .
4 - (و ما كانَ إبراهيم يهودياً و لا نصرانياً ولكنْ حينفاً مسلماً و ما كان من المشركينَ) (سورة آل عمران، الآية 67) المراد من الإسلام في هذه الآيات التسليم أمام إرادة الله سبحانه و تعالى بحيث لا يتخذ له ولياً سواه.
5 - سورة الأحزاب، الآية 40.
6 - يقال له (ختام)، و هو المقصود من الآية: (و ختامُهُ مسكٌ); أي ما تختم به أوعية السوائل في الجنة و تنبعث منها رائحة المسك.
7 - مقدمة ابن خلدون، ج 1، ص 220.
8 - عندما يفسر لفظ (خاتم) في كتب اللغة و التفسير يقال أنّ معناه ما يختم به.
9 - مقدمة ابن خلدون، ج 1، ص 220.
10 - الطبقات الكبرى، ج 1، ص 258.
11 - الاشراقات، ص 292.
12 - الوافي، ج 2، ص 144.
13 - سورة الصف، الآية 6