هناك علامات ذكرها الإمام عليه السلام للمتقين، تدل عليهم ويعرفون بها، فما هي تلك العلامات، وما هي حدودها ودلالاتها؟
قوة فى دين
(فمن علامة أحدهم أنك ترى له قوّة فى دين) فتراه ثابتاً في دنيه، قوياً يقاوم وساوس شياطين الجن والإنس، لا يؤثّر فيه تشكيك المشكك ولا ينخدع بخداع المنحرفين.
وعن الإمام الصادق عليه السلام: "المؤمن أشد من الجبل والجبل يستقل منه بالفأس والمؤمن لا يستقل على دينه"1.
وحزماً في لين
الحزم لا يعني العدائية. والسلوك الحازم ليس عدوانيا ولا توبيخياً ولا تهديدياً ولا قاسياً ولا تهكمياً. الحزم يختلف عن العدوانية، فأنت بالدفاع عن نفسك وإثبات وجودك لا تعتدي على حقوق الآخرين. الحزم يعني أن توصل ما تريد قوله إلى الآخرين بطريقة واضحة، مع احترام حقوقك ومشاعرك وحقوق الآخرين ومشاعرهم.
الحزم في الأمور الدنيويّة والدينيّة والتثبّت فيها ممزوجا باللين للخلق وعدم الفظاظة عليهم وهي فضيلة العدل في المعاملة مع الخلق واللين قد يكون للتواضع المطلوب بقوله تعالى: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُوْمِنينَ﴾2. وقد يكون من مهانة وضعف يقين، والأوّل هو المطلوب وهو المقارن للحزم في الدين ومصالح النفس والثاني رذيلة مخالف للحزم.
وإيماناً في يقين
عن الإمام الرضا عليه السّلام: "إنّما هو الإسلام والإيمان فوقه بدرجة والتقوى فوق الإيمان بدرجة، واليقين فوق التقوى بدرجة، ولم يقسّم بين النّاس شيء أقلّ من اليقين، قال: قلت: فأي شيء اليقين؟ قال: التوكّل على اللّه والتسليم للّه، والرّضا بقضاء اللّه، والتفويض إلى اللّه"3.
فالمسلمون درجات في تدينهم يبدؤون بالإسلام ليصلوا إلى اليقين، واليقين هو الذي لا يساوره شك ولا تردد.
حرصاً في علم
حرصا في طلب العلم النّافع فى الآخرة والازدياد منه.
وقد قص الله علينا قصة موسى عليه السلام، كيف سافر في البحر وتحمل المشاق لكي يتعلم بعض المسائل من الخضر عليه السلام فقال: ﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًاَ﴾4.
والنبي صلي الله عليه وآله وسلم قال: "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين"5 فإنه لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ويقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوإِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾6 فإن العلم نور وهداية والجهل ظلمة وضلالة وإنه مع الإيمان رفعة في الدنيا والآخرة....
وقصداً في غنى
القصد في الغنى وهو فضيلة العدل في استعمال متاع الدنيا بحيث لا يقع في الإسراف أو التبذير.
فهو مع غناه مقتصد في حركاته وسكناته ومصارف ماله بل جميع أفعاله يعنى أنّ غناه لم يوجب طغيانه وخروجه عن القصد وتجاوزه عن الحدّ كما قال تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى* أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى﴾7 .
وخشوعاً في عبادة
وقد وصف اللّه المؤمنين بذلك في قوله ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾8 قال في مجمع البيان أي خاضعون متواضعون متذلّلون لا يدفعون أبصارهم عن مواضع سجودهم ولا يلتفتون يميناً وشمالاً.
وروي أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم رأى رجلاً يعبث بلحيته في صلاته فقال: "أما انّه لو خشع قلبه لخشعت جوارحه"9.
وفي هذا دلالة على أنّ الخشوع في الصّلاة يكون بالقلب ويظهر على الجوارح، فأمّا بالقلب فهو أن يفرغ قلبه بجميع الهمّة لها والإعراض عمّا سواها فلا يكون فيه غير العبادة والمعبود، وأمّا بالجوارح فهو غضّ البصر والإقبال عليها وترك الالتفات والعبث.
وتجمّلاً في فاقة
يتعفّف ولا يظهر الحاجة في حال فقره، ويترك السّؤال ويستر ما هو عليه من الفقر.
وقد مدح اللّه سبحانه أصحاب هذه الصفة بذلك في قوله ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾10.
وكانوا نحوا من أربعمائة من فقراء المهاجرين يسكنون صفّة مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يستغرقون أوقاتهم بالتعلّم والعبادة وكانوا يخرجون في كلّ سريّة يبعثها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يظنّهم الجاهل بحالهم وباطن أمورهم أغنياء من التعفّف أي من أجل التعفّف والامتناع من السّؤال والتجمّل في اللّباس والسّتر لما هم عليه من الفقر وسوء الحال طلباً لرضوان اللّه وجزيل ثوابه تعرفهم بسيماهم بما يرى فيهم من علامة الفقر من رثاثة الحال وصفرة الوجه.
وطلباً فى حلال
قال الله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌٌ﴾11.
وقد حث الشرع الحنيف إلى طلب الحلال وترك الحرام، والتقي هو الذي يطلب الرّزق من الحلال ويقتصر عليه ولا يطلبه من الحرام.
وفي رواية أخرى عنه صلى الله عليه وآله وسلمِ: "العبادة سبعون جزءاً، وأفضلها جزءاً طلب الحلال"12.
روى في الوسائل عن الكلينىّ بإسناده عن أبى حمزة الثمالي عن أبى جعفر عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في حجة الوداع: "ألا إنّ الرّوح الأمين نفث في روعي أنه لا تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتّقوا اللّه وأجملوا في الطلب ولا يخفنكم استبطاء شيء من الرّزق أن تطلبوه بمعصية اللّه، فانّ اللّه تبارك وتعالى قسّم الأرزاق بين خلقه حلالا ولم يقسّمها حراما، فمن اتّقى وصبر آتاه اللّه برزقه من حلّه ومن هتك... وعجل فأخذه من غير حلّه قصّ به من رزقه الحلال وحوسب عليه يوم القيامة".
نشاطاً في هدى
فيكون سلوكه لسبيل اللّه وإتيانه بالعبادات المشروعة الموصلة إلى رضوان اللّه سبحانه بطيب النفس وعلى وجه الخفّة والسهولة لا عن الكسل والتغافل، وذلك ينشأ عن قوّة اليقين فيما وعد اللّه المتّقين من الجزاء الجميل والأجر العظيم.
تحرجاً عن طمع
في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عليه السلام: "أكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع"13، وعنه عليه السلام: "أزرى بنفسه من استشعر الطمع، ورضي بالذل من كشف عن ضره، وهانت عليه نفسه من أمّر عليها لسانه"14.
واستشعار الطمع بمعنى اتخاذه ديناً له وديدناً بحيث لا يلتزم بشيء إلا على أساس منفعته الخاصة. ومن كان كذلك فقد حقّر نفسه لأن الإنسان يقاس بأهدافه وأمانيه.
فلا يطمع المؤمن بما في أيدي الناس لعلمه بأنه من الرذائل النفسية ومنشأ المفاسد العظيمة، لأنه يورث الذل والاستخفاف والحقد والحسد والعداوة والغيبة وظهور الفضايح والمداهنة لأهل المعاصي وترك التوكل على الله والتضرع إليه، وعدم الرضا بقسمه... ومن هنا نلاحظ الرواية عن الإمام علي بن الحسين عليه السلام: "رأيت الخير كلّه قد اجتمع في قطع الطمع مما في أيدي الناس"15.
وقد سأل أحدهم الإمام الصادق عليه السلام عن الذي يثبت الإيمان، فقال عليه السلام: "الورع" وسأله عن الذي يخرجه منه، قال عليه السلام: "الطمع"15.
* المتقون.سلسلة الدروس الثقافية, نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية. ط: الأولى آب 2007م- 1428ه. ص: 31-36.