عدد المساهمات : 15 نقاط : 45 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 13/10/2013
موضوع: الطفل في الرؤية الإسلامية الإثنين نوفمبر 11, 2013 2:24 pm
تربية الطفل في الرؤية الإسلامية
الفصل الثاني
قانون الوراثة
دور الوراثة في نظرة تمهيدية
بات من الواضح علمياًَ ما لقانون الوراثة من أثر في نقل الصفات من الآباء والأمهات إلى الأطفال عبر "الجينات" الوراثية، حيث يستطيع الإنسان ـ خصوصاً أولئك الذين يضطلعون بخبرة خاصة في التعرف على معالم الوجه والهيئة العامة للجسم ـ أن يشخصوا معالم شبه الطفل ودرجة هذا الشبه مع أبويه.
بل إن العلم قطع شوطاً متقدماً في هذا المجال، إذ يمكن من خلال تحليل الدم أن ينسب الطفل إلى والديه.
وقانون الوراثة يفعل فعله ـ أيضاً ـ في نقل الصفات الباطنية الداخلية ذات الطابع المعنوي والأخلاقي، وتأثيره بالتالي لا يقتصر على تشكيل الهوية الجسمية الظاهرية للطفل.
فالأم الحسود تنقل الصفة إلى ابنتها، والأب البخيل ينقل هذه الصفة إلى ولده، وهكذا بالنسبة لصفات الكرم والشجاعة والرأفة والمودة والعاطفة، فإن هذه الصفات تنتقل بشكل غالب عبر الآباء والأمهات إلى أطفالهم.
ولكن إذا كانت إرادة الإنسان عاجزة أمام الجانب الأول من عمل قانون الوراثة، الذي يدخل في نقل الهوية الجسمية والشكل العام للطفل عبر (الجينات) الأبوين وسلالة العائلة إلى الطفل، فإن هذه الإرادة تستطيع أن تطوع هذا القانون لمصلحتها، وتعطل فعله فيما يتعلق بالجانب الثاني، أي بالمواصفات الأخلاقية والمعنوية العامة التي يكتسبها الطفل عن والديه.
يستطيع الإنسان الذي ولد من أبوين بخيلين أن يقاوم هذه الصفة في نفسه من خلال الإرادة وصحة العزم والتربية المستمرة، فيبطل مفعولها في حياته، بل ويستطيع أن يتحول إلى نقيض ما كان عليه أبواه، أي إلى حالة الكرم.
والذي يهمنا هنا أن العلم والإسلام يشتركان معاً في الإقرار بفعالية قانون الوراثة وتأثيره في تشكيل شخصية الطفل من موروث والديه، سواء كان ذلك على صعيد الهيئة والشكل أو الصفات الأخلاقية والمعنوية.
ولعل الآية الكريمة تشير إلى مضمون قانون الوراثة، في قوله تعالى: (والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكداً). [الأعراف: 58]
حيث تقرب الآية المضمون العقلي لقانون الوراثة من خلال مثال حسي نابض بالحركة والحياة، وهو أقرب ما يكون إلى وجدان الإنسان وعقله. فالأرض تعتبر من ألصق الأشياء بالإنسان، وهي بشكل عام تنقسم إلى قسمين: أرض خصبة، وأخرى بور.
الأرض الخصبة الخالية من الأعشاب والحشائش الضارة، والمعدة للزراعة بالحرث وغيره، يكون حاصلها كثيراً حسناً، بعكس الأرض البور التي يعلوها الملح والسبخ، فهي عادة لا تصلح إلا للحشائش والأعشاب الضارة، وإذا أنبتت ثمراً فلا يكون محصولها إلا رديئاً قليلاً.
القرآن الكريم ينبه الإنسان إلى أن القلب الغافل غير النظيف مثله مثل الأرض البور المالحة، لا يمكن أن يكون منبعاً للفضيلة والخير، بعكس القلب النظيف الطاهر، الذي يتحول إلى ينبوع لا ينضب للعطاء تماماً كالأرض الخصبة.
هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية يمكن أن تكون في الآية الكريمة إشارة إلى ما نحن بصدده، إذ تعلمنا أن الأم العفيفة التي تتسم حياتها بالستر والفضيلة، وأن الأب الشجاع الكريم المتدين، يثمران في حياتهما أولاداً ملتزمين مؤدبين تشع الفضيلة والخير من محياهم.
أما الوالدان المنحرفان فلا يمكن أن يرفدا المجتمع إلا بأولاد منحرفين تلمح الشر فيهم واضحاً ولا ترجو منهم خيراً.
لذلك كله نقرأ عن الرسول الأكرم (ص) قوله: "انظر إلى ما تضع نطفتك فإن العرق دساسا". [المستطرف 2: 218]
إن هذا الحديث يرشد إلى ضرورة التأني في اختيار الزوجة، والتدقيق في شروط الزوجة من زاوية عفتها وتقواها ودينها، لأن معنى (فإن العرق دساس) هو أن أصل وأساس كل صفة في تكوين المرأة سواء كانت سلبية أو إيجابية إنما تظهر إلى السطح وتفعل فعلها في الحياة الزوجية.
إن ثمة تطابق نجده هنا بين ما يتحدث عنه علماء اللغة في معنى "العرق" وبين ما يتحدث به علماء الأحياء والوراثة عن (الجينات) الوراثية، وهي الكائنات ذات الخلية الواحدة.
وفي ضوء هذا التطابق سيكون معنى الحديث الآنف الذكر عن رسول الله (ص) هو أن على الإنسان أن يكون على حذر في الاختيار، لأن هذه (الجينات) مثلما تتكفل التحكم بنقل الصفات الجسمية والشكلية العامة للطفل عن والديه، فإنها تنقل الصفات المعنوية والأخلاقية أيضاً.
ولعل تأمل الحديث الذي يقول: "الولد سر أبيه" يؤكد هذا المعنى، إذ يتبين من خلاله أن الطفل هو ثمرة المواصفات العامة لوالديه، سواء في ذلك مواصفات الأب أم الأم.
وبغض النظر عن مدى انطباق معنى آية: (والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكداً) والحديثين المذكورين اللذين ذكرناهما قبل قليل، مع معطيات علم الوراثة، فإن الذي يهمنا هنا أننا نقف مع هذا العلم على مسلمات صحيحة لا مجال لرفضها أو إنكارها.
لذلك كله نرى أن الإسلام أهتم اهتماماً بالغاً بتربية الأولاد من زاوية الأسس التي وضعها والقواعد التي اعتمدها في قانون الوراثة. بل ونلاحظ هنا أن الإسلام خطط لتربية ومستقبل الأطفال من زاوية قواعد قانون الوراثة قبل انعقاد النطفة، وذلك من خلال الضوابط التي وضعها في اختيار الزوج لزوجته والزوجة لزوجها، إذ بين يدينا ثروة عظيمة في هذا الصدد، مما تنطوي عليه معاني الروايات والقواعد الإسلامية في ذلك.
وواضح أن هذه المعايير تعكس نفسها في ملاحظة قواعد قانون الوراثة بشكل دقيق، لأن من يرغب من الوالدين في رفد المجتمع وتزويده بولد صالح أو بنت صالحة، عليه أولاً مراعاة أسس هذا القانون وقواعده.
الزواج وشروط الاختيار
نستلهم من الإسلام ـ بشكل عام ـ قاعدة كلية في اختيار الزوج، تتمثل في قول رسول الله (ص): "إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه وأمانته يخطب إليكم فزوجوه، وإلا تفعلوه تكن فتنة وفساد كبير".
إن هذا الحديث يحمل نداء إلى الجميع، إلى الشباب والشابات إلى الأمهات والآباء، وهو يقول بوضوح لا لبس فيه: إن الشرطين الأولين في اختيار الزوج لزوجته، والزوجة لزوجها، يتمثلان في الدين والأخلاق.
فإذا كانت البنت فاقدة للأخلاق والإنسانية وهي غير متدينة فإن الزواج منها ينطوي على مخاطرة كبيرة ليس على الزوج فحسب، بل على الأطفال الذين سيثمرهم مثل هذا الزواج، وسيكون الحال كما حذر عنه رسول الله (ص) في قوله: "إياك وخضراء الدمن".
فإذا كانت البنت فاقدة للأخلاق والإنسانية وهي غير متدينة فإن الزواج منها ينطوي على مخاطرة كبيرة ليس على الزوج فحسب، بل على الأطفال الذي سيكونون ثمرة هذا الزواج، وسيكون الحال كما حذر عنه رسول الله (ص) في قوله: "إياك وخضراء الدمن".
قيل: يا رسول الله وما خضراء الدمن؟
قال: المرأة الحسناء في منبت السوء".
ونستفيد من هذا الحديث ـ كذلك ـ أن على الفتاة أن تلتزم هي الأخرى الحذر في اختيار الزوج المناسب لها، إذ نقرأ في الروايات والأحاديث الإسلامية أن من يعطي ابنته ويزوجها لتارك الصلاة ومرتكب المعاصي أو إلى شارب الخمر، أو إلى شاب والديه يدمنان الخمر أو غير ملتزمين، فإنه بذلك قد قطع رحمه، لأنه يقتل بمثل هذا الزواج براعم الخير والعطاء ويقطع نسل ابنته.
وقانون الوراثة ـ ليس في حقيقته ـ أكثر من مراعاة هذه الشروط وغيرها مما سيأتي.
وينبغي أن نكون على حذر من المقاييس العرفية الخاطئة فـ"المرأة الحسناء" في منبت السوء لا تعني الفتاة الفقيرة أو ذات المقام الاجتماعي الواطئ من زاوية الموقع الاقتصادي، وما إلى ذلك.
ومعنى "المؤمنون بعضم أكفاء بعض" لا يعني أن التاجر أو أبنه أو ابنته لا يليق لهم في مكانتهم إلا كفؤهم في المركز التجاري والاجتماعي، أو من هو أكفأ منهم في ذلك.
كذلك عندما نقرأ في روايات الزواج التأكيد على الاقتران بالأكفاء، فإن علينا أن لا نتوهم أن العوائل الفقيرة ـ أو التي تفتقد المكانة الاجتماعية الظاهرية ـ غير كفوءة، فكم من العوائل الفقيرة ممن يلتزم شروط التقوى والتدين، ومثل هؤلاء هم أهل للزواج منهم.
إن التقوى هي المقياس حيث يقول تعالى: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) [الحجرات: 13]
لذلك فإن كلمة (كفؤ) لا تعني المماثلة في الشكل، أو في المركز المالي، أو في الموقع الاجتماعي الظاهري، وإنما كل هذه مقاييس عرفية خاطئة.
إن التقاليد الاجتماعية في اختيار الزوجة تقوم اليوم على أعراف دقيقة جداً في الانتخاب والاختبار، فنرى أن من يقوم بالخطبة ـ خصوصاً من النساء ـ يدقق في شكل الفتاة وملامحها الجمالية، وفي مدى التزامها بشروط النظافة والتدبير المنزلي، بل تصل الحالة إلى التدقيق بأمور صغيرة في شكل الفتاة ومظهرها ووضعها في المنزل، تحتاج إلى الكثير من الحذاقة والذكاء مما هو معروف ومتداول اجتماعياً.
وهذا التدقيق جيد وحسن إذا اقترن بتدقيق آخر ينطوي على التعرف على الصفات الأخلاقية والمعنوية في سلوك الفتاة وحياتها، ولكن ـ مع الأسف ـ نرى أن معايير الاختيار في الخطبة تنصب على الشكل والجمال والوضع المنزلي العام، وتهمل بشكل خطير قضية الصفات والشروط المعنوية والأخلاقية.
فمن النادر ـ مثلاً ـ أن نرى خاطباً يدقق في الفتاة ليرى إذا كانت حسودة أم لا، أو نرى أحداً عاد من الخطبة ليقول: إن أم الفتاة حسودة، وإن هذه الصفة مرشحة للانتقال عبر قانون الوراثة إلى الفتاة ذاتها (زوجة المستقبل) وإن خطورة هذه الصفة تمنعه من الاقتران بها.
نفس الشيء يقال بالنسبة للشاب، إذ ينبغي للفتاة أن تكون على حذر في اختيار زوج المستقبل، وعليها أن تدقق في صفاته الأخلاقية والمعنوية من زاوية التزامه بالصلاة وتردده على المساجد وعلاقته بالأصدقاء المؤمنين ورجال الدين، وإلا فاقتصار التدقيق على صفات الشكل والقامة والمكانة المالية والعائلية والاجتماعية، كلها صفات لا تغني عن الشروط المعنوية والأخلاقية والسلوكية.
فإذا كان للشاب ـ وهو زوج المستقبل المفترض ـ مجموعة من رفاق السوء، فإنه لا يستطيع أن يكون الزوج المثالي، ولا يستطيع أن يهتم بزوجته الاهتمام اللائق ولا يؤتمن على أخلاقه معها، بل إن زوجة مثل هذا الشخص لا يمكنها إلا أن تنتظر التعاسة والشقاء، فمثله لا يرجع إلى البيت إلا في منتصف الليل أو بعد منتصف الليل، هذا إذا لم يعد سكراناً.
لذلك يوصي رسول الهدى والإنسانية محمد بن عبد الله (ص): "إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه، وإلا تفعلوه فتكون فتنة وفساد كبير".
فالذي لا يضع الدين والأخلاق ميزاناً في الاختيار يزرع في الواقع بذور الفتنة والفساد الكبير الذي يطال العائلة أولاً ثم الأسرة الكبيرة ثم النسيج الاجتماعي برمته.
إنني أعرف الكثير من بنات العوائل الملتزمة ممن هنَّ على قدر كبير من الالتزام والتدين، ولكن مصيرهنَّ انتهى إلى التحلل والانحراف بسبب أزواجهن غير الملتزمين، إذ لم تمر سنة على زواجهن حتى تركن الصلاة والحجاب!
وكذلك الحال بالنسبة للشباب المتدين الملتزم الذي يقع فريسة زوجة غير صالحة متحللة، فهو سرعان ما ينجرف ـ بعد بضعة أشهر من الزواج ـ في تيارها ويصبح برغم إرادته بلا دين وبلا أخلاق، خصوصاً إذا كانت عائلة زوجته غير ملتزمة كذلك.
إن الإسلام يولي اهتماماً كبيراً لقانون الوراثة، ويرى أن صلاح المجتمع يقوم على دعائم الدين والأخلاق والتقوى. وكذلك يقرر الإسلام أن السعي وراء الأموال وحدها وجعلها مقياساً دون الأخلاق لن يؤدي إلى ثمرة في مصلحة بناء الاسرة السليمة والمجتمع السليم.
أما السعي باتجاه الدين والأخلاق والتقوى فهو في ذاته يستدعي السعي الموازي نحو الشروط والحدود المعقولة من مواصفات الجمال والقدرة المالية والمكانة الشخصية.
أما من يجعل همه الجمال أو المال، ويتجاوز التقوى والدين والأخلاق، فسوف لن يحصد سوى الخسران وخيبة الأمل.
يروى أن الإمام الصادق (ع) قال ما معناه أن الله تبارك وتعالى أقسم أن يخيب أمل أمثال هؤلاء. وفي وقائع الحياة الاجتماعية التي نعيشها رأينا مصاديق هذا الحديث جلية واضحة فكم من باحث في زواجه عن المكانة الشخصية انتهى به الزواج إلى التشتت والضياع.
وكم من راكض وراء الجمال لم يحصد من زواجه سوى الانحراف والرذيلة والضعة، بل وأضاع العفة والشرف. وكم من ساعٍ وراء المال لم يثمر زواجه سوى الخسران والفقر والفاقة.
على الشباب والشابات ـ إذاً ـ أن لا يسعوا وراء المواصفات الظاهرية فحسب، لأن أملهم فيما يسعون إليه من هذه المواصفات سيتحول ـ بمقتضى قسم إلهي ـ إلى يأس وخسران، فالشاب الذي يتزوج الفتاة لجمالها فقط من دون مراعاة جوانب العفة والالتزام والأخلاق في سلوكها الشخصي وفي أسرتها سيتحول هذا الجمال إلى وبال. إذ نقرأ في الحديث الشريف نصاً صريحاً يقول: "من تزوج امرأة لجمالها جعل الله جمالها وبالاً عليه".
ومعنى الوبال أن زوجته بجمالها الذي هو ثروتها الوحيدة تتدلل عليه وتثير المشاكل في البيت، ثم يتسم سلوكها بالتعالي والترفع وفرض الشروط، فتسلب المودة ويغيب الحب من داخل البيت، وإذا سلبت المودة وغابت المحبة فلن يبقى في البيت سوى البغض والعداوة، ومثل هذا البيت يتحول إلى جحيم بالنسبة للأطفال الذين يتربون على ألوان من العقد النفسية.
بل قد يقود جمال هذه المرأة إلى ما لا تحمد عقباه من زاوية العفة والشرف، وإذا ارتكبت شيئاً مشيناً على هذا الصعيد، فإن ما يشينها لن يقتصر عليها، وإنما يكون باعثاً لانكسار الزوج ولأن يعيش هو وأولاده مطأطئ الرأس خجلاً مما اقترفت زوجته.
ومن الطبيعي أن يشمل سوء هذه المرأة وعارها المحيط الأسري والعائلي الذي تنتمي إليه هي وزوجها، فتسقط بذلك سمعة طائفة كبيرة من الناس ممن حولها.
وكذلك من يتزوج لأجل المال فقط، فهو لن يحصد سوى المشاكل، وقد تقوده رجلاه إلى السجن أو إلى شتى ألوان المصاعب.
ونفس الشيء يقال للذي يبحث في زواجه عن المكانة الاجتماعية والمقام الظاهري، حتى وإن كان ذلك على حساب شروط الالتزام السلوكي والأخلاقي، فهو أيضاً لن يحصد في حياته الأسرية سوى التعاسة والأذى، ويذوق وبال ما كسبته يداه في هذه الدنيا، ويبقى عذاب الآخرة وحساب القيامة في انتظاره حتى يدخل إلى جهنم ويقذف بها، كما تنص على ذلك الروايات.
ومن الطبيعي أن الإسلام يلتقي في توجيهاته وتحذيراته على هذا الصعيد مع نتائج التجربة العملية لأمثال هذه الزيجات.
شروط الاختيار وأثرها في مستقبل الطفل
نعود الآن إلى قضية التربية لنرى كيف يخطط الإسلام لمستقبل الأولاد وسلامتهم النفسية والاجتماعية من منظوره الخاص، قبل أن يتم الاقتران والزواج أصلاً، فيشدد على شروط اختيار الزوجة لزوجها والزوج لزوجته، لارتباط هذه الشروط بمستقبل الطفل، وجعله سعيداً أم شقياً، وذلك لارتباط بذرة الشقاء والسعادة في خطوات وشروط ومواصفات الاختيار الأولية.
وقد لاحظنا أن للإسلام شرطين أساسين هما: الأخلاق، والدين ثم تأتي مجموعة من الشروط الكمالية والمواصفات التي لا تصل في أهميتها إلى مستوى الشرطين المذكورين. ومن طريف ما يروى ـ هنا ـ أن أحدهم جاء إلى الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب (ع) يستشيره في تزويج ابنته. فقال له (ع): "زوجها من رجل تقي، فإنه إن أحبها أكرمها، وإن أبغضها لم يظلمها" [مكارم الأخلاق: 204].
وبذلك لا يؤول مصير البيت والعائلة والأطفال إلى البرود والفتور، ولا تنبثق فيه المشكلات، فالزوج التقي الخلوق إذا أحب الفتاة أكرمها، وإن لم يحبها لم يظلمها ولم يسيئ إليها. أما إذا كان غير تقي ولا خلوق فإن براعم السوء تنبت من الأيام الأولى، لأن سيئ الخلق هذه طبيعته، والقرآن الكريم يقول: (قل كل يعمل على شاكلته). [الإسراء: 84]
والمثل المعروف يقول: الإناء ينضح بما فيه.
فالشاب الفاقد للأخلاق قد تمنعه فترة الزواج الأولى ـ بما فيها من لذة جنسية وجسدية وبما للزواج في حياته من جدة ـ من أن يفجر المشاكل داخل البيت، ولكن هذا الهدوء الظاهري سرعان ما ينتهي، ويرتفع الستار عن الواقع الحقيقي بعد ستة أشهر أو سنة من الزواج، حينما تخبو لذة الجنس، فينكشف الزوج على أخلاقه الحقيقة، ويتحول البيت إلى سجن وجحيم للزوجة والأولاد، وذلك بسبب عدم التدقيق أثناء اختيار الزوجة أو الزوج بشرطي: الأخلاق، والدين.
رسول الله (ص) في مواجهة الأعراف الجاهلية
لقد كان رسول الله (ص) مكلفاً في دعوته أن يواجه تقاليد الجاهلية وأعرافها، وأن يستبدل بها قيم الإسلام ومفاهيمه.
فعلى الصعيد العائلي وفيما يختص بتطبيق الشروط الإسلامية للزواج، ومواجهة أعراف المجتمع الجاهلي وتقاليده تحتفظ لنا سيرة الرسول (ص) بمواقف كثيرة لها جذور عميقة في اقتلاع تلك التقاليد والأعراف واستبدالها بأسس جديدة لها مدلولها الكبير على الصعيد الاجتماعي والنفسي والأخلاقي والإنساني.
لقد أعطى رسول الله (ص) من نفسه القدوة، وتمثل ذلك في زواج ابنته فاطمة الزهراء (ع)، حيث لم يتجاوز جهازها سبعة عشر حاجة بسيطة تقوم عليها حياة الزوجين الجديدين في مستواها الأدنى.
لقد زوجها رسول الله (ص) من ابن عمه علي (ع) وقد بلغ به فقره أنه (ع) شوهد ليلة عرسه يحمل الرمل على عاتقه، وعندما سئل عنه، أجاب: إنه بحاجة إليه ليساوي به أرض غرفته ثم يمد حصيره عليه فتلين الأرض من تحته!
هذا عن ابنته (ص) التي سنعود إلى قصتها مرة أخرى إن شاء الله.
أما في محيطه العائلي فقد عمد رسول الله (ص) إلى تزويج ابنة عمته زينب بنت جحش لزيد، الذي لم يكن له مقام اجتماعي ـ كما هو المتعارف سابقاً ـ كونه عبداً أعتق حديثاً وأسلم فحسن إسلامه بعد أن رباه الرسول الأكرم (ص)، بينما كانت زينب ـ بالإضافة إلى شرف نسبها وعلو مقامها العائلي ـ على قدر فائق من الجمال والفضل والعلم والكياسة والتعقل، وكانت ذات شخصية مرموقة، لكنها أطاعت أمر رسول الله (ص) وجعلت من نفسها نموذجها في الزواج لبنة متينة في صرح الإسلام العظيم وهو يبني الحياة الزوجية، ويؤسس مجتمعه على دعائم وشروط جديدة تستلهم مضمونها من الإسلام، وتضرب عرض الحائط بتقاليد الجاهلية وأعرافها.
قصة جويبر والزلفاء
أما الحادثة التي نبقى معها إلى نهاية هذا الفصل ونوردها بتفاصيلها الكاملة، فهي قصة تزويج رسول الله (ص) لجويبر من الزلفاء ابنة زياد بن لبيد، لما لهذه الحادثة من شمول في إرساء وتكريس نظرة الإسلام الجديدة، بدلاً عما كان سائداً من شروط الجاهلية وتقاليدها، ولما لها من نبض حي حري به أن يدفع شبابنا وشاباتنا نحو الحياة الإسلامية الصحيحة، وكي تكون عظة للآباء والأمهات.
كان جويبر رجلاً قصيراً ذميماً محتاجاً عارياً، وكان أسود من قباح السودان، وكان من أهل اليمامة. ضمه رسول الله (ص) ـ لحال غربته واحتياجه ـ فكان يجري عليه طعاماً صاعاً من تمر، وكساه شملتين وأمره أن يلزم المسجد ويرقد فيه بالليل، فمكث هناك ما شاء الله، حتى كثر الغرباء ممن يدخلون في الإسلام ـ من أهل الحاجة ـ بالمدينة إلى أن ضاق بهم المسجد، فأوحى الله عز وجل إلى نبيه (ص) أن طهر مسجدك وأخرج من المسجد من يرقد فيه بالليل.
أمر رسول الله (ص) بعد ذلك أن يتخذ المسلمون سقيفة، فعملت لهم وهي "الصفة" ثم أمر الغرباء والمساكين أن يظلوا فيها نهارهم وليلهم، فنزلوا واجتمعوا فيها، فكان رسول الله (ص) يتعهدهم بالبُر والتمر والشعير والزبيب ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وكان المسلمون يتعهدونهم ويرقون عليهم لرقة الرسول (ص).
نظر رسول الله (ص) إلى جويبر ذات يوم، وقال له: "يا جويبر، لو تزوجت امرأة فعففت بها فرجك، وأعانتك على دنياك وآخرتك".
فقال جويبر: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي من يرغب فيَّ، فوالله ما من حسب ولا نسب ولا مال ولا جمال، فأية امرأة ترغب بي؟
فقال رسول الله (ص): "يا جويبر، إن الله قد وضع بالإسلام من كان في الجاهلية شريفاً، وشرف بالإسلام من كان في الجاهلية وضيعاً، وأعز بالإسلام من كان في الجاهلية ذليلاً، وأذهب الإسلام ما كان من نخوة الجاهلية وتفاخرها بعشائرها، وباسق أنسابها، فالناس اليوم كلهم أبيضهم وأسودهم، وقرشيهم وعربيهم وأعجميهم، من آدم وإن آدم خلقه الله من طين. وإن أحب الناس إلى الله عز وجل يوم القيامة أطوعهم له وأتقاهم، وما أعلم ـ يا جويبر ـ لأحد من المسلمين عليك اليوم فضلاً، إلا لمن كان أتقى لله منك وأطوع".
ثم قال (ص) له: "انطلق ـ يا جويبر ـ إلى زياد بن لبيد، فإنه من أشرف بني بياضة حسباً، وقل له: إني رسول رسول الله إليك، وهو يقول لك: زوج جويبراً ابنتك الزلفاء".
انطلق جويبر برسالة رسول الله (ص) إلى زياد بن لبيد وهو في منزله ورهط من قومه لديه، فاستأذن بالدخول فأذن له، فدخل فسلم عليه، ثم قال: يا زيد بن لبيد، إني رسول رسول الله (ص) إليك في حاجة لي، أفأبوح بها أم أسرها إليك؟ فقال له زياد: بل بح بها، فإن ذلك شرف لي وفخر، فقال له جويبر: إن رسول الله (ص) يقول لك: زوج جويبراً ابنتك الزلفاء.
فقال له زياد: أرسول الله أرسلك إليَّ بهذا؟
فأجاب: نعم، فما كنت لأكذب على رسول الله (ص).
فقال له زياد: إنا لا نزوج فتياتنا إلا أكفاءنا من الأنصار. ثم قال له: انصرف ـ يا جويبر ـ حتى ألقى رسول الله (ص) فأخبره بعذري.
انصرف جويبر وهو يقول: والله ما بهذا نزل القرآن ولا بهذا ظهرت نبوة محمد (ص)، فسمعت مقالته الزلفاء بنت زياد وهي في خدرها، فأرسلت إلى أبيها تستدعيه، فدخل إليها فقالت له: ما هذا الكلام الذي سمعتك تحاور به جويبراً؟
فقال لها: ذكر لي أن رسول الله (ص) أرسله، وقال: يقول رسول الله (ص): زوج جويبراً ابنتك الزلفاء.
فقالت له: والله ما كان جويبر ليكذب على رسول الله (ص) بحضرته، فابعث الآن رسولاً يرد عليك جويبراً.
فبعث زياد رسولاً فلحق جويبراً وجاء به فقال له زياد: يا جويبر، مرحباً بك اطمئن حتى أعود إليك.
ثم انطلق زياد إلى رسول الله (ص)، فقال له: بأبي أنت وأمي إن جويبراً أتاني برسالتك وقال: إن رسول الله (ص) يقول لك: زوج جويبراً ابنتك الزلفاء، فلم ألن له بالقول ورأيت لقاءك، ونحن لا نزوج فتياتنا إلا أكفاءنا من الأنصار.
فقال له رسول الله (ص): "يا زياد، جويبر مؤمن، والمؤمن كفؤ للمؤمنة، والمسلم كفؤ للمسلمة، فزوجه ولا ترغب عنه".
فرجع زياد إلى منزله ودخل على ابنته، فقال لها ما سمعه من رسول الله (ص).
فقالت له: إنك إن عصيت رسول الله كفرت، فزوج جويبراً.
فخرج زياد فأخذ بيده جويبر، ثم أخرجه إلى قومه، وزوجه على سنة الله وسنة الرسول (ص) وضمن صداقه.
جهز زياد ابنته الزلفاء وهيأها، ثم أرسلوا إلى جويبر فقالوا له: ألك منزل فنسوقها إليك؟
فقال: والله ما لي منزل.
فهيأوا لجويبر منزلاً وأثثوه بالفراش والمتاع وكسوا جويبراً ثوبين، وأدخلت الزلفاء بيتاً، وأدخل جويبراً عليها، فلما رآها ورأى ما منحه الله من نعمة، قام إلى زاوية البيت، فلم يزل تالياً للقرآن راكعاً ساجداً حتى طلع الفجر، فلما سمع النداء خرج وخرجت زوجته إلى الصلاة، فسئلت: هل مسك؟ فقالت: مازال تالياً للقرآن وراكعاً وساجداً حتى سمع النداء، فخرج.
وهكذا كان الحال في الليلة الثانية والثالثة، فلما كان اليوم الثالث أخبر أبوها بالخبر، فانطلق إلى رسول الله (ص) وحكى له ما كان من أمر جويبر.
فأرسل النبي (ص) إلى جويبر يطلبه، فلما حضر قال له (ص): "أما تقرب النساء؟
فأجاب جويبر: أو ما أنا بفحل، إني لنهم إلى النساء يا رسول الله.
فقال (ص): "قد خبرت بخلاف ما وصفت به نفسك، وقد هيأوا لك بيتاً وفراشاً ومتاعاً".
فأجاب جويبر: يا رسول الله، دخلت بيتاً واسعاً ورأيت فراشاً ومتاعاً، وأدخلت عليّ فتاة حسناء، فذكرت حالي التي كنت عليها وغربتي وحاجتي وضيعتي وكسوتي مع الغرباء والمساكين، فأحببت إذ أولاني الله ذلك أن أشكره على ما أعطاني وأتقرب إليه بحقيقة الشكر، فرايت أن أقضي الليل مصلياً والنهار صائماً، ففعلت ذلك ثلاثة أيام ولياليها، ولكني سأرضيها وأرضيهم.
فأرسل رسول الله (ص) إلى زياد فأتاه، فأعلمه ما قال جويبر.[الوسائل 14: 44].
الخلاصة
لقد علمنا رسول الله (ص) بقوله: "إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه وأمانته يخطب إليكم فزوجوه، وإلا تكن فتنة وفساد كبير".
وقد رأيناه (ص) يعطي من سلوكه الشريف الأنموذج العملي لهذا التوجه الكريم رأيناه يفعل ذلك في تزويجه لإبنته فاطمة الزهراء (ع) وفي تزويجه لابنة عمته زينب من زيد، ورأيناه في قصة جويبر والزلفاء. وهو في كل ذلك يعطي المصداق العملي لقوله (ص): "وكل مأثرة الجاهلية تحت قدمي".
لقد كرست الأمثلة النبوية الكريمة ما تحدثنا عنه من أهمية شرطي: الأخلاق والدين، في اختيار الزوج والزوجة على كل ما عداها من اعتبارات تتصل بالمركز والمقام العائلي والاجتماعي، أو بمواصفات ترتبط بالشكل والجمال والقامة والمكانة المالية والحالة الاجتماعية والاقتصادية.
وبذلك نُنهي هذا الفصل وقد وضعنا لبنة جديدة في منظور التربية الإسلامية الصحيحة للأولاد، تتمثل هذه المرة بفاعلية قانون الوراثة، وبضرورة مراعاة مقتضيات هذا القانون قبل انعقاد النطفة والاقتران في مراحل وشروط اختيار الزوجة والزوج، وهو الاختيار الذي يقوم أساساً على شرطي: الأخلاق، والدين.