دراسات في التصوف، في رحمة القلب وحكمته و طيش الروح و استبداد العقل
كاتب الموضوع
رسالة
اسد الولايه
عدد المساهمات : 11 نقاط : 33 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 13/11/2013
موضوع: دراسات في التصوف، في رحمة القلب وحكمته و طيش الروح و استبداد العقل السبت نوفمبر 16, 2013 1:44 am
اللهم صل على سيدنا محمد و على آله وصحبه ، أمابعد يغفل القارئ اللبيب عند قرائته لتاريخ المسلمين بشقيه التربوي العلمي من جهة ، والسياسي من جهة أخرى ، على أمر مهم : كيف أفهم الصراع و التدافع بين رحمة في القلب يحس بها الولي في عزلته و استقالته عن الشأن العام ؟ ، وبين فهم العقل المجرد عن الفهم القلبي لنصوص أولياء الله ؟ وما في استبداد السياسي التي عرفته الأمة مع بني أمية و بني العباس وبنو عثمان من الأستئصال الداخلي للرأي الحر و كيف زحف العدوان الداخلي على أهل الفضل في بلاد المسلمين ، فكممت الأفواه ، وسكت العلماء عن النصيحة حفاظا على بيت المسلمين من الفرقة و التشتت؟. تحجر علمي يواجه الفقه القلبي ، واستبداد دموي جريء في الدماء و الرقاب لا يعرف الورع في الحفاظ على الكرسي و تقاليده الفرعونية؟. وهيام صوفي خيالي في ترتيب المقامات و الأحوال مقابل تاصيل للفروع و الأصول و علوم الآلة ، و تعصب حنبلي سلفي وهابي فقهي في مواجهة الضعفاء المسلمين من العوام و الخواص. رحمة في القلب في الزاوية ، وحكمة علمية في حلقات العلم ، وشره شرعي مدجج مؤصل بالنصوص من الأصلين في مواجهة الرأي المخالف. مجرد مقدمة لموضوع ذو شجون. ابدأ برسالة لأمير أموي كتبها لأحد و لاته : "كتب هشام بن عبد الملك إلى عامله على إفريقية : "أما بعد، فإنّ أمير المؤمنين ( !) لما رأى ما كان يبعث به موسى بن نصير إلى الملك بن مروان رحمه الله تعالى، أراد مثله منك، وعندك من الجواري البربريات المالئات للأعين الآخذات للقلوب ما هو معوز لنا بالشام وما والاه. فتلطف في الانتقاء، وتوخ أنيق الجمال، وعظم الأكفال، وسعة الصدور، ولين الأجساد، ورقة الأنامل، وسبوطة العصب، وجدالة الأسؤق، وجثول الفروع، ونجالة الأعين، وسهولة الخدود، وصغر الأفواه، وحسن الثغور، وشطاط الأجسام، واعتدال القوام، ورخامة الكلام). - انظُر أطروحة الأستاذ محمد الطالبيّ التي عُنوَانها "الدولة الأغلبية"، نشر "دار الغرب الإسلاميّ" الطبعة الأولى، 1985، الصفحتين 38 و39 بتعاليقهما. في النص البديع للأمير الأموي حكمة بالغة ، تأسف لها العقول ، كيف أصبح الأمام المصحوب كما قرأناه في الصحبة و الصاحب و المصحوب ، من الرحمة القلبة الممزوجة بالعقل الحكيم و الرفق بالأمة في أمرها الخاص و العام ، مجرد نكاح طالب للجواري و الأماء ؟. وكيف تجزأت بسبب ذلك الشرخ الشخصية المسلمة الوارثة للنبوة ووظيفتها الى مجرد شخصية لاهية متمتعة بالدنيا لا غير. أوردت النص لوقعه على القلب ، وقد أعتاد القارئ أن يقرأ التمجيد لفتوحات بني أمية ؟. مجرد فتوح ام ماذا ؟. وفي الكفة الأخرى ،: استقالة أهل الفضل في الفتنة عن واجب النصيحة. وفي كفة أخرى : أهل التربية من نأوا بأنفسهم في الخلوات مع الباقيات الصالحات ، تأبى نفوسهم أن تتلوث بركام و نجاسة و ازبال الصراع الدنيوي ؟ واستكنف العلماء أصحاب العلم من نصيحة الحاكم المستبد وجوز أحدهم شرعية حكم المستولي بالسيف. فما موقعنا من الخلاف القديم الحديث ، و كيف نتجاوزه في المستقبل ؟. في تطبيق عملي بعد قراءة الرسالة الفريدة حقا ، كيف ستتعامل القلوب و العقول لتصدر حكمها : أ.الصوفي القح المستقيل من تدبير هم المسلمين في الشان العام ، لن يكثرث بهذه الرواية ، وسيعتبرها موعظة حسنة تذكره بالأشتغال بأمر الله و ذكره ، وأن يتجنب كل أمر يبعده عن الله تعالى ، ويحفز حواسه و جوارحه عن كل أمر مليم مقعد عن الله. فلا شان له ؟ و شانه أن يطلب المقامات العالية بعيدا عن هذا ، السؤال في مقابل هذا التصور : هل كان فعلا الأستقالة عن الشأن العام سنة الحبيب ؟ هل وردت عليه قولا و فعلا و سنة وتقريرا؟. ب.السلفي القح يرى في الرواية طعنا في الملك المجيد الذي ملك الدنيا و فتح الأمصار والبلدان ، و يحك أتسب ملكا كان القوة الضاربة الحامية لبلدان المسلمين من العدوان الخارجي ، وما ضير أن تمتع مولاي هشام بالأماء و الجواري أما تكفيه تكاليف الخلافة و مغارمها ؟ السؤال الذي سيطرح نفسه : هل كان الأماء والجواري سنة الخلفاء الراشدين . لا زمة يجعلها هؤلاء : سنة النبي و خلفائه الراشدين ، ام الجواري و الأماء زينة الخلافة و جمالها؟. ج.الشيعي سيلعن الجميع وحتى من يكتب هذه الفقرات.هذا فرغنا منه. د.الحداثي المتنور سيقوض الأسلام من أساسه سلطان وحكم و هيبة و رق ومال وخراج. ه.الحركي العامل في الشأن العام يحدثك عن ضرورة العمل لتقويض مثل هذه الأنظمة ، و الأنقلابي عن ضرورة الثورة. فكيف يقرأ المرحوم قلبه بحقائق الأيمان هذا الخبر ، و كيف يعالج هذه المعضلة ؟ لا يكفي الزهد و التصوف في معالجة هذا الأمر ، فالتصوف في زماننا لا يعدو أن يكون مجرد تبرك بالخرقة و السجادة و السبحة ، والسلفية مجرد حكم مسبق عن الأمة بالكفر و الضلال بتضرم مفرط و تجهم مغال فيه و تبديع للأمة . 1. الخطوة الأولى ، الرحمة و الحكمة : نجد تأصيلا لهذ ين المفهومين في كتاب مقدمات في المنهاج يقول الشيخ عبد السلام ياسين -فأقصد بالرحمة العلاقة القلبية للعبد بربه، وأقصد بالحكمة تصرف العقل، عقل المؤمن المرحوم، أثناء فهمه لشريعة الله عز وجل، وأثناء صياغتها صياغة قابلة للتطبيق، وأثناء السهر على تنفيذ أوامرها والامتناع والزجر عن نواهيها. الرحمة ما جاء من الله تعالى للعبد هداية كبعث الرسل إليه، والرحمة تعلق القلب بتلك الهداية، والاستمساك بعروتها حتى تنور كيانه ويتمكن في محبة الله عز وجل، تلك المحبة التي تؤدي للعمل والجهاد : ﴿ يا أيها الذين آمنوا من يرتدد منكم عن دينه فسوف يات الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المومنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم﴾ . أقصد بالحكمة "معرفة الدين والعمل به" كما فسر الكلمة الإمام مالك رحمه الله. قال ابن قتيبة : "الحكمة عند العرب العلم والعمل". والعلم والعمل آلتهما العقل. فإما عقل مصدر معرفته التجربة البشرية والتخمين الفلسفي وذاك عقل مشترك بين البشر. وإما عقل يتلقى عن القلب رحمة الإيمان وهداية الوحي، ثم ينصرف إلى تنفيذ أمر الله سبحانه وتعالى في الكون، لا غنى له عن التجربة والفحص، فذاك عقل الحكمة. الرحمة قلبية، والحكمة عقلية راجعة في معرفة الأهداف والغاية إلى الوحي، آخذة بالتجربة التي تمكن الإنسان من ضبط حركة الكون والسيطرة على تفاعلاته ليتسنى له تطبيق الشرع.).كتاب مقدمات في المنهاج. نفقه من خلال ما نقرأ أن الرحمة التي سنشعر بها عند الذكر لها وظيفتين : - ترقي العبد في معرفة الله في مقامات الأحسان فيشعر بقرب الله و رحمته و عفوه. -تكليفية تشعر العبد بضرورة العمل و حمل هم الأمة لاغير. فأن لم تحقق في الصوفي هذين الأمرين فالتصوف و للأسف مجرد : طيش الروح. والعقل الذي لا يستنبط حقائقه عن القلب المرحوم بالأيمان مجرد مدركات في الحواس و تفكير في العلم و عمل منظم لا يرقى صاحبه الا في الحقل المعاشي لا غير. العقل الحكيم يستنبط من الأيمان و حقائق الوحي الطريقة المثلى في معالجة الماضي وما كان فيه من المثالب و الأيضات ، وفي الحاضر بالعمل للمسلمين و استثمار جميع العلوم لبلوغ أقصى الغايات ، وللمستقبل ما فعلته لألقلى الله في آخرتي. لا يفرق الصوفي بين الميل القلبي لشيخه و محبته و بين مقتضيات العقل وميزانه ، فأحاينا تجد الصوفي يتعامل مع ثراث غيره بنوع من الشطط ، فمثلا ترى وليا من أولياء يحب مآثر ابن عربي رضي الله عنه ، ويقرأ لأبن تيمية و ابن القيم الجوزية وكانا من أشد العلماء شدة على عقيدة الأموات ، فينكر كل شيء الخير و الشر و الفضل و الدخن ، فيعرض كليا عن مآثر ابن القيم الجوزية و ابن تيمية و أن كان حقا. وتجد السلفي لا يستطيع أن يقرأ مجرد كتاب لأهل الله بدعوى ان ما فيها بدع وضلالات. فيسب و يشجب و يستدل بتدليس أبليس لآبن الجوزي لا غير و فتاوي ابن تيمية . وعقيدة محمد بن عبد الوهاب رحمه الله. تقرأ لأبن القيم الجوزية كتاب الوابل الصيب ، فتجد الحرقة و الهم و الأسف على ما أصاب ذكر الله من الفتور عند الناس ، ويذكر كيف كان ابن تيمية يقوم الليل و يجلس بعد صلاة الصبح يذكر الله الى الضحى ، وشهادة ابن القيم في شيخه الذي قال له يوما عن ذكره هذه غذوتي وقرة عينه لولاها ما ثبث على الطريق. وكتابه طريق الهجرتين حيث ناقش فساد عقيدة المتكلمين ثم ولج باب الأرادة و الولاية و العلم و كيف يكتسب الطالب لولاية الله و لاية العلم و الأرادة.لا يريد بعض المتشططين من أهل الله الا ليعرضوا كليا و يربوا السالكين على الأعراض بهوى العقل. فهل هذه حكمة أم رحمة أم ماذا ؟. لا أنكر فضل ابن القيم الجوزية علي فيما يخص الفهم القلبي لأهل الله ، تجد التأصيل الدقيق و البيان الشافي لمختلف علوم القوم ، واعتبره ممن علمني كيف أقرأ لأبن عربي رضي الله عنه ، و لا تنقص محبتي له و لا تزيد كما أن حبي لثراث الشيخ ابن عربي رضي الله عنه لا يجعلني أغمط حق الآخرين ممن بذلوا الوقت و الجهد في تأصيل الأصول و الفروع. تنفع المحبة القلبية بحسب أهل الله عند الأنقياد للولي المربي ، لكن هذه المحبة لن تنفعني أن كان قلبي لا يسع جميع المسلمين. - " لا يبتسم في وجه الفاسق الا العارف" كما جاء في الفتح الرباني ، فلم نرددها في مجالسنا الليلية التربوية ان لم نكن نعمل بها في واقعنا. أم أنه مجرد تواجد ووجد وهيام ، بل طيش الروح. فكيف استطاع ابن تيمية رحمه الله و تلميذه الأغر ابن القيم الجوزية ان يثنيا على أكابر المشايخ اليس لسعة الصدر ؟. يقول الشيخ عبد السلام ياسين في فصل الرجال من كتاب الأحسان ، فقرة المحدثون و الصوفية......في العهود الأولى كان احترام متبادل وتعاون على البر والتقوى. كان من الصوفية من تخرجوا في علم الرواية، وكان من المحدثين من تصوفوا على يد مشايخ متصوفين. لم تكن هناك قطيعة ولا سوء ظن. ومن أئمة الحديث، أولياء الله إن كان لله ولي، من جلس في مجالس القوم ومن آخى مشايخ القوم، مع التسليم والمصافاة. نقل تاج الدين ابن السبكي في "طبقات الشافعية" عن الحافظ الكبير أبي عبد الله الحاكم قصة الإمام أحمد ابن حنبل مع الشيخ الحارث المحاسبي. قال الحاكم بسنده المتصل إلى إسماعيل بن إسحاق السراج، قال إسماعيل: قال لي أحمد بن حنبل: بلغني أن الحارث هذا يكثر الكون عندك (يكثر من الحضور في بيتك) فلو أحضرته منزلك وأجلستني من حيث لا يراني فأستمع كلامه. فقصدت الحارث وسألته أن يحضر تلك الليلة وأن يحضر أصحابه. فقال: فيهم كثرة، فلا تزدهم على الكسب (الخبز) والتمر، فأتيت أبا عبد الله (ابن حنبل) فأعلمته فحضر إلى غرفة واجتهد في ورده. وحضر الحارث وأصحابه فأكلوا. ثم صلوا العتمة (العشاء) ولم يصلوا بعدها. وقعدوا بين يدي الحارث لا ينطقون إلى قريب نصف الليل. ثم ابتدأ رجل منهم فسأل مسألة، فأخذ الحارث في الكلام، وأصحابه يستمعون كأن على رؤوسهم الطير. فمنهم من يبكي، ومنهم من يحن، ومنهم من يزعق وهو في كلامه. فصعدت الغرفة لأتعرف حال أبي عبد الله، فوجدته قد بكى حتى غشي عليه. فانصرفت إليهم. ولم تزل تلك حالهم حتى أصبحوا وذهبوا. فصعدت إلى أبي عبد الله فقال: ما أعلم أني رأيت مثل هؤلاء القوم، ولا سمعت في علم الحقائق مثل كلام هذا الرجل. ومع هذا فلا أرى لك صحبتهم. ثم قام فخرج. وفي رواية أخرى أن أحمد قال:لا أنكر من هذا شيئا" ، قال ابن السبكي: قلت: تأمل هذه الحكاية بعين البصيرة واعلم أن أحمد بن حنبل إنما لم ير لهذا الرجل صحبتهم لقصوره عن مقامهم. فإنهم في مقام ضيق لا يسلكه كل أحد، فيخاف على سالكه. وإلا فأحمد قد بكى وشكر الحارث هذا الشكر. ولكل رأي واجتهاد، حشرنا الله معهم أجمعين في زمرة سيد المرسلين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم. وأضيف بضراعة المقصرين الراجين عفوه تعالى: اللهم آمين.
ماذا ذهب شيخ المحدثين يفعل عند البكائين؟ وهل يغشى عليه من وعظهم لو لم يكن أبكى منهم وأخشع؟ له ورده يجتهد فيه كما لهم أوراد. ويزيد عليهم بخدمة العلم. إن أهل الحديث رضي الله عنهم هم أهل الإحسان بالمعاني المتعددة للكلمة: إحسان في العبادة، وإتقان لصناعتهم الجليلة، وإحسان للخلق كافة بما حفظوا عليهم من هذا الدين. صحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم صحبة خدمة واتباع ومحبة. خدموه بأبدانهم يرحلون الرحلات الشاقة البعيدة لسماع حديث أو تحقيق كلمة. وخدموه بعقولهم في تصحيح إسناد ونقد رجال وإثبات تاريخ وتقويم متن. وخدموه بقلوبهم غيرة على حديث خير البرية أن يزور أو يحرف. لا جرم يعم فضلهم الأمة ويوصي ابن حنبل صاحب الدار، ولعله كان تلميذا له، أن يترك حلق الذكر الخاصة الخاص نفعها ليتفرغ للعلم الذي يعم نفعه كل طائفة وكل مكان وكل جيل. ما كل من حمل الحديث بمنزلة الإمام أحمد ولا كل من تسمى صوفيا بمعزل عن اللوم. أمثال أحمد الذين تشربوا حب المصطفى صلى الله عليه وسلم وتعظيمه وإكبار أمره وأفنوا أعمارهم في خدمته قليل. هم أئمة الهدى. يقول الإمام الشافعي متحدثا عن الجناب الشريف: "فصلى الله على نبينا كلما ذكره الذاكرون، وغفل عن ذكره الغافلون. وصلى عليه في الأولين والآخرين، أفضل وأكثر وأزكى ما صلى على أحد من خلقه، وزكانا وإياكم بالصلاة عليه أفضل ما زكى أحدا من أمته بصلاته عليه. والسلام عليه ورحمته وبركاته. وجزاه الله عنا أفضل ما جزى مرسلا عن من أرسل إليه. فإنه أنقذنا من الهلكة، وجعلنا في خير أمة أخرجت للناس، دائنين بدينه الذي ارتضى، واصطفى به ملائكته ومن أنعم عليه من خلقه. فلم تمس بنا نعمة ظهرت ولا بطنت، نلنا بها حظا في دين ودنيا، أو دفع بها عنا مكروه فيهما أو في واحد منهما، إلا ومحمد صلى الله عليه وسلم سببها، القائد إلى خيرها، والهادي إلى رشدها". كان حب الله ورسوله رابطة جامعة بين كل طوائف السلف الصالح. وكانت نسبة الإيمان واصلة، ونسبة الإحسان سارية يشيم ومضها بعضهم من بعض ويشتم عبيرها بعضهم من بعض. لما امتحن الإمام أحمد في مسألة خلق القرآن وأعلن المامون ومن بعده المعتصم تحيزهما لجانب الفكر الدخيل خنس كثير من الفقهاء والقراء، وتمالأ على الإمام قضاة القصر وبغاته، وبقي هو رضي الله عنه صامدا كالجبل ينافح عن صفاء العقيدة وحرمة القرآن. في تلك الأثناء كتب إليه الشافعي رسالة تشجيع وتضامن. قال الربيع بن سليمان صاحب الإمام الشافعي: "فدخلت بغداد ومعي الكتاب. فصادفت أحمد بن حنبل في صلاة الصبح. فلما انفتل من المحراب سلمت إليه الكتاب وقلت: هذا كتاب أخيك الشافعي من مصر. فقال لي أحمد: نظرت فيه؟ فقلت: لا، فكسر الختم وقرأ، وتغرغرت عيناه. فقلت له إيش فيه أبا عبد الله؟ فقال: يذكر فيه أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال له: اكتب إلى أبي عبد الله فاقرأ عليه السلام، وقل له: إنك ستمتحن وتدعى إلى خلق القرآن فلا تجبهم، فيرفع الله لك علما إلى يوم القيامة. قال الربيع: فقلت له: البشارة يا أبا عبد الله. فخلع أحد قميصيه الذي يلي جلده فأعطانيه. فأخذت الجواب وخرجت إلى مصر. وسلمته إلى الشافعي. فقال: إيش الذي أعطاك؟ فقلت: قميصه. فقال الشافعي: ليس نفجعك به. ولكن بله وارفع إلي الماء لأتبرك به". من لا تتسع حويصلته أن يسمع عن أئمة الدين كيف كانوا يتكاتبون بالرؤى الصادقة وكيف كانوا يعتزون بصلتهم القلبية بالمخدوم الأعظم صلى الله عليه وسلم، وكيف كانوا يتبركون بآثار النبي الطاهر وبآثار بعضهم فليبحث عن تاريخ مفلسف منقح مادي "غير غيبي" في تاريخ غير تاريخ المسلمين الموثق بالأسانيد المتصلة. كان الشافعي رضي الله عنه صاحب قلب ونورانية وفراسة عرف بها أولياء الله وخصوا. سواء منهم من حمل اسم صوفي أو فقيه أو محدث، لا يغير مظهر اللقب من جوهر الملقب. روى نفس الصاحب الربيع بن سليمان قال: "دخلنا على الشافعي رضي الله عنه عند وفاته أنا والبوطي والمزني ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم. قال: فنظر إلينا الشافعي ساعة فأطال. ثم التفت إلينا فقال: أما أنت يا أبا يعقوب فستموت في حديدك، وأما أنت يا مزني فسيكون لك بمصر هيآت وهنات، ولتدركن زمانا تكون أقيس أهل ذلك الزمان. وأما أنت يا محمد فسترجع إلى مذهب أبيك. وأما أنت يا ربيع فأنت أنفعهم لي في نشر الكتب. قم يا أبا يعقوب فتسلم الحلقة (أي حلقة التعليم التي كان يجلس فيها الشافعي). قال الربيع: فكان كما قال". كانت لوائح الولاية لائحة على الإمام البخاري. كانت له كرامات ودعوات مستجابات. وما له لا يكون من أصحاب الاستجابة والتجلي وهو السابق بالخيرات المجلي، والرب كريم، نواله عظيم. كان رضي الله عنه قواما صواما تاليا لكتاب الله معظما لرسول الله صلى الله عليه وسلم محبا له خادما. روى عنه صاحبه الفربري أنه كان لا يكتب في صحيحه حديثا إلا بعد أن يغتسل ويصلي ركعتين. وكذلك كان الإمام مالك رضي الله عنه من قبله، لا يجلس للحديث إلا بعد أن يغتسل ويتطيب. ولا يركب دابة في المدينة على كبر سنه، ويقول: "لا أركب في بلد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه مدفون". بذلك نالوا عند الله جل وعلا الدرجات. قال محمد بن أبي حاتم: سمعت أبا عبد الله (البخاري) يقول: "ما ينبغي للمسلم أن يكون بحالة إذا دعا لم يستجب له". قال: "وسمعته يقول: خرجت إلى آدم بن إياس، فتخلفت عني نفقتي، حتى جعلت أتناول الحشيش ولا أخبر بذلك أحدا. فلما كان اليوم الثالث أتاني آت لم أعرفه، فناولني صرة دنانير وقال: أنفق على نفسك". كأني بقائل من العقلانيين يستلقي على قفاه ضحكا وسخرية من "الخرافات" التي تمتلئ بها كتب المسلمين. إن من لا يومن بمعجزات الأنبياء وكرامة الله عز وجل لأوليائه عن طريق الأسباب أو بخرق العادة لمدخول العقيدة. ولنا عودة للموضوع إن شاء الله. وطائفة يقرأون مثل خبر الدنانير الآتية من الغيب فينصرفون عن عبادة الله المجردة القصد، ويتركون السعي الذي شرعه الله لكسب الرزق، ويعيشون في وهم سابح. هذه الذهنية هي الخرافية بعينها، وهي الخطر المحدق. وقد عاشت طوائف من المسلمين بهذه الذهنية ولا تزال. والناقدون الساخرون من الديـن و"الغيبية" لا يستطيعون أن يميزوا بين الشعوذة والسحر والأحلام وبين الكرامة التي يظهرها المولى عز وجل على يد أفراد كالبخاري وعلى يد جماعات مجاهدة كالصحابة رضي الله عنهم وكالمجاهدين في أفغانستان في زماننا. كان البخاري رحمه الله يقوم في الليل أكثر من عشر مرات ليدون حديثا أو فائدة، لا يترك له الاهتمام بالعلم نوما. والصحابة رضي الله عنهم ومجاهدو أفغانستان لا يألون جهدا في إعداد القوة كما أمر الله، يبارك الله العلي القدير تلك الوسائل على ضآلتها فتأتي بنتائج لا تخطر على البال. كان إمام المحدثين البخاري عبقا بعطر الصلاح حيا وميتا. مرض واشتد به المرض فدعا الله ربه قائلا بعد أن فرغ من صلاة الليـل: "اللهم قد ضاقت علي الأرض بما رحبت فاقبضني إليك". قال الراوي: "فما تم الشهر حتى قبضه الله عز وجل". فلما حضرته الوفاة دعا بدعوات ثم اضطجع فقضى رحمه الله. قال الراوي: "فلما دفناه فاح من تراب قبره رائحة غالية (الغالية نوع من الطيب الفاخر). فدام على ذلك أياما. ثم علت سوار بيض في السماء مستطيلة بحذاء قبره فجعل الناس يختلفون (أي يأتون الجماعة بعد الأخرى) ويتعجبون". تسمع أخي المؤمن في زماننا هذا أخبارا مستفيضة عن شهداء أفغانستان وما يفوح من أجسادهم المطهرة من عطر، وما يظهر في سمائهم من علامات، فليزدك هذا الخبر عن رجل صالح من القرون الفاضلة يقينا أن ولاية الله لاتنال بالقعود والتأمل، وإنما تنال بالجهاد والمجاهدة فيما يطهر القلب وينفع الناس في الأرض. كان من أهل الحديث من يبحث عن دليل يسلك به إلى الله، يتخذه شيخا مربيا يلزمه، بعد أن رقت الكثافة الإيمانية الإحسانية التي كانت شائعة سارية في الجو في مجتمع القرون الفاضلة. في تلك القرون كانت الصحبة والاقتباس الروحي عملية فطرية، يجذب القلب الكبير القلوب الظمأى إليه في يسر وصداقة ورحمة. كانت الوشيجة الرابطة بين المحدثين حبهم المشترك لله ورسوله وبحثهم المشترك عن العلم. كان الشافعي يقول لابن حنبل رضي الله عنهما: "أنت أعلم بالحديث مني، فإذا صح الحديث فأعلمني حتى أذهب إليه، شاميا كان أو كوفيا أو بصريا". كان بين عبد الله بن المبارك وبين الفضيل بن عياض صداقة وأخوة في الله. فضيل يعده الصوفية منهم، وابن المبارك من مشايخ مشايخ البخاري. قال ابن تيمية شيخ الإسلام: "قال سيد المسلمين في وقته الفضيل بن عياض في قوله تعالى ليبلوكم أيكم أحسن عملا). قال: أخلصه وأصوبه. قيل له: يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل. وإن كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، حتى يكون خالصا صوابا. والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة". شهد ابن المبارك في أخيه الفضيل قال: "ما بقي على ظهر الأرض أفضل من الفضيل بن عياض". وقال الفضيل: "ورب هذا البيت، ما رأت عيناي مثل ابن المبارك". كان ابن المبارك محدثا عالما فارسا عابدا كريما كثير النفقة في سبيل الله، يحج عاما ويغزو عاما. وكان شاعرا. كان أمة وحده. وكان الفضيل زاهدا ذاكرا ورعا آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر. كانا نموذجين متكاملين لأهل الخير. ولم تمنع أخوتهما الصادقة وإكبار كل منهما لصاحبه من المصارحة والمناصحة. كتب ابن المبارك إلى أخيه الفضيل هذه الرسالة الشعرية التي تستحق أن نطرق بها في زماننا باب كل ناسك منزو في خلوته، وأن نسمعها كل عالم يخشى الله ويشركه في الخشية الناس فينكص عن ميادين الجهاد مكتفيا بأوراده يتمتمها) كتاب الأحسان طبعة 1998. اي حكمة و أي عقل يستسيغ هذا الكلام ، ان لم تكن النظرة الجامعة مأوى الضائع و ديدن القائم و سلطان الفعل و ثمرة الجهد المضني في البحث عن الحقيقة. يقول في فقرة أخرى ، من كتاب الأحسان الفقهاء تلامذة الصوفية ...... وكذلك من أعيان الفقهاء من جميع المذاهب تجد الفقيه بعد استكمال طلبه للعلم أو أثناء الطلب يلتمس وليا مرشدا يصقل قلبه بالإحسان. هذا الإمام السيوطي جامع علوم عصره المتبحر المتفنن الذي نازع معاصريه الزعامة وقارعهم بعناده واعتداده بنفسه يلجأ إلى المشايخ الشاذلية يتخذهم قدوة وأدلة. كتب في "حسن المحاضرة" دعواه، وهو جدير بها رحمه الله: "رزقت التبحر في سبعة علوم التفسير والحديث والفقه والنحو والمعاني والبيان والبديع على طريقة العرب والبلغاء لا على طريقة العجم وأهل الفلسفة. والذي أعتقده أن الذي وصلت إليه من هذه العلوم الستة، سوى الفقه والنقول التي اطلعت عليها منها، لم يصل إليه ولا وقف عليه شخص من الأشخاص. فضلا عمن هو دونهم. وأما علم الحساب فهو أعسر شيء علي وأبعده عن ذهني. وإذا نظرت في مسألة تتعلق به فكأنما أحاول جبلا أحمله. وقد كملت عندي آلات الاجتهاد". ما بال مثل هذا الرجل المعتز بعلمه، المنفرد في عصره بالاطلاع الواسع، المؤلف المرموق، المقرب إلى "خليفة" عصره المتوكل على الله العباسي، المحسود من طرف فقهاء مصر، خاضوا ضده معارك حامية، يذهب إلى المشايخ أهل الطريق يخضع لهم ويتتلمذ ؟ ألم يكفه ما في بطون الكتب من علم غزير؟ عبرة لك يا سيدي يا أخي يا حبيبي يا من ترشد الناس لقراءة كتب الصوفية. "تأييد الحقيقة العلية وتشييد الطريقة الشاذلية"، هذا عنوان كتاب السيوطي، وهو مطبوع. فابحث عنه عله يكون آخر ورقات تبحث فيها عن التربية الإحسانية، ولن تجد فيه إلا شهادة رجل صادق خشى كما تخشى أن يكتم شهادته،"وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (سورة البقرة، الآية:140). تتلمذ خلق لا يكادون يحصون من الفقهاء في كل العصور للمشايخ من رجال الطريق. وتحدثوا عن مشايخهم، وقارنوا بين الفقهاء والصوفية وفاضلوا. استمع معي إلى حكم محدث بارز يقارن ويقوم، محدث تتلمذ للمشايخ الشاذلية كما تتلمذ السيوطي. إنه ابن حجر الهيثمي. قال: "فمستنبطو الفروع هم خيار سلف الأمة وعلماؤهم وعدولهم وأهل الفقه والمعرفة فيهم. فهم قوم غذوا بالتقوى وربوا بالهدى. أفنوا أعمارهم في استنباطها وتحقيقها بعد أن ميزوا صحيح الأحاديث من سقيمها وناسخها من منسوخها. فأصلوا أصولها ومهدوا فروعها. فجزاهم الله عن المسلمين خيرا وأحسن جزاءهم، كما جعلهم ورثة أنبيائه وحفاظ شرعه، ألحقنا الله بهم وجعلنا من تابعيهم بإحسان". ويكتب عن العارفين الصوفية: "العارفون بالله الذين وفقهم الله لأفضل الأعمال، وحفظهم من سائر المخالفات في كل الأحوال. ثم كشف لهم الغطاء فعبدوه كأنهم يرونه، واشتغلوا بمحبته عما سواه. وأطلعهم على عجائب ملكه، وغرائب حكمه، وقربهم من حضرة قدسه، وأجلسهم على بساط أنسه، وملأ قلوبهم بصفات جماله وجلاله، وجعلها مطالع أنواره، ومعادن أسراره، وخزائن معارفه، وكنوز لطائفه. وأحيى بهم الدين، ونفع بهم المريدين، وأغاث بهم العباد، وأصلح بهم البلاد. ثم يتحدث عن الفقهاء ليعقد المقارنة فيقول: "علماء الظاهر الذين عرفوا رسوم العلوم الكسبية، وعويصات الوقائع الفعلية والقولية، وغرائب البراهين العقلية والنقلية، حتى حفظوا سياج الشرع من أن يلم به طارق، أو يخرقه مبتدع مارق. فالأولون (أي العارفون) أفضل، وإن كان للآخرين (الفقهاء حماة الشريعة) فضل عظيم، بل ربما كانوا أفضل من حيثية لا مطلقا. الشهادة القولية الصادرة عن الفحول من علماء الأمة وأئمتها لها وزنها. والعبرة بالشهادة الفعلية أقوى وأبلغ. انقياد الفقهاء للمشايخ المربين، وانصياعهم لأمرهم، وتلقيهم بالتسليم والموافقة لتوجيهاتهم، ثم تعظيمهم لهم ومحبتهم إياهم واعترافهم بفضلهم تقرأ هذا في أثباتهم وفهارسهم، وفي كتب التاريخ والطبقات. فهل هي ظاهرة تدل على صبيانية رجال الإسلام أم هناك مادة نورانية لا توخذ من الكتب بل من قلوب أهل الصفاء والوفاء؟ إن من لا حرقة في نفسه إلى معرفة الله لا يبحث، وإن بحث فلمجرد الاطلاع وإرضاء الفضول. باحث عن الحق صارم ترك لنا بمجموع تاريخه وثروة فكره وثمين مؤلفاته شهادة بليغة كانت لأجيال المسلمين منذ تسعة قرون معينا لا ينضب من الفهم والاقتداء والانتقاد والأخذ والرد أيضا. إنه حجة الإسلام أبو حامد الغزالي رضي الله عنه، الجبل الراسخ الذي لايسع المفكر ولا العالم ولا الفقيه ولا الصوفي ولا السياسي ولا الباحث عن أسرار النفس البشرية ولا المؤرخ للفكر الإسلامي والإنساني أن يمروا به مر الكرام. بعضهم يقرأ نقدا لهذه الفكرة أو تلك النظرة من نظرات الغزالي وفكره فيسد عليه النقد الهدام بأنقاضه منافذ التمييز. إن أخطأ الغزالي في جزئية فالبشر معدن الخطأ. ويكون ماذا إن انتقده فلان أو علان؟ أنت ماذا جنت يداك، ماذا فعلت بحياتك يا من يلهو بقراءة جدل الرجال؟. أبو حامد بحث واستقصى، ثم اضطر آخر الأمر لرجل يعلمه دينه. فماذا قال أبو حامد، وما يفيدني أنا ما شهد به أبو حامد في قضيتي مع ربي؟. كتاب "المنقذ من الضلال" كتاب عظيم الفائدة على صغر حجمه. لخص فيه حجة الإسلام مسيرته وحيرته وأخطاءه وسلوكه. قال: ثم إني لما فرغت من هذه العلوم (العلوم النقلية والعقلية في عصره قتلها دراسة ونقاشا) أقبلت بهمتي على طريق الصوفية، وعلمت أن طريقتهم لا تتم إلا بعلم وعمل. وكان حاصل علمهم قطع عقبات النفس، والتنزه عن أخلاقها المذمومة، وصفاتها الخبيثة، حتى يتوصل إلى تخلية القلب عن غير الله، وتحليته بذكر الله. (… ) فلم أزل أفكر فيه مدة، وأنا بعد على مقام الاختيار أصمم العزم على الخروج من بغداد، ومفارقة تلك الأحوال يوما (الأحوال التي كان فيها هي منصبه المرموق مدرسا في "النظامية" أكبر "جامعة" في بغداد وسمعته كفقيه تشد لفتواه الرحال). قال: وأحل العزم يوما، وأقدم فيه رجلا وأؤخر عنه أخرى. لا تصدق لي رغبة في طلب الآخرة بكرة إلا وتحمل عليها جند الشهوة حملة فتفترسها عشية. فصارت شهوات الدنيا تجاذبني بسلاسلها إلى المقام، ومنادي الإيمان ينادي: الرحيل! فلم يبق من العمر إلا القليل! وبين يديك السفر الطويل! وجميع ما أنت فيه من العلم والعمل رياء وتخييل. فإن لم تستعد الآن للآخرة فمتى تستعد؟ وإن لم تقطع الآن هذه العلائق فمتى تقطع؟ فعند ذلك تنبعث الداعية، وينجزم العزم على الهروب والفرار. ثم يعود الشيطان ويقول: هذه حالة عارضة، إياك أن تطاوعها، فإنها سريعة الزوال. فإذا أعرضت عنها وتركت هذا الجاه العريض والشأن المنظوم الخالي عن التكدير والتنغيص، والأمن الصافي عن منازعة الخصوم، ربما التفتت إليه نفسك، ولا يتيسر لك المعاودة". ومرض الرجل مرضا شديدا، انعكس الصراع النفسي المحتدم في جوفه على جسمه فأرداه، كذلك الهمم العالية تنوء بحملها الأجسام. ويئس الأطباء فلم يبق ملجأ إلا الله الرؤوف الرحيم. وبرأ أبو حامد من أمراض جسمه ومن تردده، فأوصى لعياله، ثم غادر بغداد متخففا يبحث عن رجل من لحم ودم يدله على الله بعد أن أعياه البحث عن الحق في بطون الكتب، وزحمه هم الآخرة وهم الله. لقي شيخا مربيا فصحبه وشاوره وائتمر بأمره. ويتحدث عن "المتبوع المقدم" (كأنه ينظر إلى قول موسى للخضر عليهما السلام: هل أتبعك) فيقول: فمن كان لله كان الله له. حتى إنه في الوقت الذي صدقت فيه رغبتي لسلوك هذه الطريق شاورت متبوعا مقدما من الصوفية في المواظبة على تلاوة القرآن. فمنعني وقال: السبيل أن تقطع علائقك من الدنيا بالكلية، بحيث لا يلتفت قلبك إلى أهل وولد ومال ووطن وعلم وولاية. بل تصير إلى حالة يستوي عندك وجودها وعدمها، ثم تخلو بنفسك في زاوية، تقتصر من العبادة على الفرائض والرواتب، وتجلس فارغ القلب، مجموع الهم، مقبلا بذكرك على الله تعالى. وذلك في أول الأمر بأن تواظب باللسان على ذكر الله تعالى، فلا تزال تقول الله الله، مع حضور القلب وإدراكه، إلى أن تنتهي إلى حالة لو تركت تحريك اللسان لرأيت كأن الكلمة جارية على لسانك، لكثرة اعتياده. ثم تصير مواظبا عليه إلى أن ينمحي أثر اللسان، فتصادف نفسك وقلبك مواظبين على الذكر من غير حركة اللسان. ثم تواظب إلى أن لا يبقى في قلبك إلا معنى اللفظ، ولا يخطر ببالك حروف اللفظ وهيآت الكلمة، بل يبقى المعنى المجرد حاضرا في قلبك على اللزوم والدوام". كيف يقبل العقل أن يمنع مؤمن مؤمنا من قراءة القرآن والمواظبة على التلاوة؟ أم كيف نفهم قَبول حجة الإسلام عالم بغداد توجيها من هذا القبيل؟ أم كيف نعقل بادئ الأمر أن يسأل أمثال أبي حامد هذه المسألة: هل أواظب على التلاوة؟. إن إسلاس القياد لولي مرشد يدلك على الطريق شرط في السلوك. وما كان لولي أن يأمر إلا بحق. وما منعه من المواظبة على التلاوة إلا بغية أن يهيئه بتصفية القلب بالذكر، حين يعم قلبه الإيمان ويعقل قلبه القرآن، لمرحلة تكون فيها المواظبة على التلاوة عبادة كاملة. وهاك الدليل. روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله، إني أقرأ القرآن فلا أجد قلبي يعقل عليه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن قلبك حشي الإيمان، وإن الإيمان يعطى العبد قبل القرآن". ثم إن الذكر بالاسم المفرد أنكره ابن تيمية رحمه الله وأجمع الصوفية إجماعا على أن الذكر به من أعظم الذكر. فلا جدال. ثم إن العبرة عندنا هنا في انصياع عالم فقيه من أعلام الملة لشيخ "متبوع مقدم"، يطيعه فيما يأمر بلا نقاش. السؤال الدائم: لماذا يضطر الفقهاء الصادقون لصحبة المشايخ؟ والجواب الدائم أنها الولاية التي لا تكسب بالدراسة والاطلاع، بل بنور يقذفه الله جل وعلا في قلوب أصفيائه، فيأتي من شاء الله له خيرا يقتبس من ذلك النور. والنفوس الصغيرة لا تقبل أن تعترف بمزية عليها لأحد، إنما يعترف بفضل أولي الفضل من كان أهلا لفضل الله الذي يوتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. ويمضي أبو حامد يطبق الإرشادات إلى أن فتح الله له كما يفتح الفتاح العليم لأحبابه. كتب رحمه الله في "المنقذ من الضلال": "ثم دخلت الشام وأقمت بها قريبا من سنتين، لا شغل لي إلا العزلة والخلوة والرياضة والمجاهدة، اشتغالا بتزكية النفس وتهذيب الأخلاق وتصفية القلب بذكر الله تعالى كما حصلته من علم الصوفية. فكنت أعتكف مدة في مسجد دمشق، أصعد منارة المسجد طول النهار، وأغلق بابها على نفسي (...)، ودمت على ذلك مقدار عشر سنين. وانكشفت لي في أثناء هذه الخلوات أمور لا يمكن إحصاؤها واستقصاؤها. والقدر الذي أذكره ينتفع به". ويؤدي الرجل بأمانة وصدق وبساطة شهادته أمام الله تعالى ليقرأها من بعده الصادقون. ما كان يبالي أن يعترض معترض أو يسخر ساخر. ما حاول أن يعلل ويفلسف ويعقلن تنازلا عند من يشققون الكلام. بل أفضى بذات قلبه إلينا في كلمات مباشرة ساذجة سذاجة الحق وبساطته. فمن أزرى بعقل كبير مثل عقل أبي حامد، أو اتهم سكرات القلوب المعروفة عند المجانين والمجاذيب، فما عليه إلا أن يتخطى شهادة الرجل ويطوي هذا الكتاب ويرتبه في الرف. وقد انتهى الأمر وما يغني الحديث. والسلام. يؤدي الغزالي شهادة مجملة لأن ما انكشف له لا يمكن استقصاؤه وإحصاؤه" فيستمر قائلا: إني علمت يقينا أن الصوفية هم السالكون لطريق الله تعالى خاصة، وأن سيرتهم أحسن السير، وطريقهم أصوب الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق. بل لو جمع عقل العقلاء وحكمة الحكماء، وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء، ليغيروا شيئا من سيرهم وأخلاقهم ويبدلوه بما هو خير منه لم يجدوا إلى ذلك سبيلا. فإن جميع حركاتهم وسكناتهم، في ظاهرهم وباطنهم مقتبسة من نور مشكاة النبوة، وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به". نعم يا ولي الله، ما وراء نور النبوة نور يستضاء به، ولا فوق النموذج الأول نموذج يعلو. رحم الله زمر الصالحين من الصوفية والمحدثين والعلماء العاملين. أووا إلى الزوايا والمدارس والعزلة والصمت والمجاهدة والسهر والعبادة والذكر. وبقي عليهم أمر عظيم لم يتخلوا عنه استغناء عنه، إذ لا يعوضه في مراتب الإحسان شيء. بقي عليهم الجهاد في الأرض ليحكم دين الله الأرض. عاشوا، الأحباء، في عهود كان قدر الله فيها على الأمة أن يحكم النظام العاض والجبري. وفي حاضر الأمة ومستقبلها لن نلتفت إن شاء الله إلى ما تحت الصحابة رضي الله عنهم الذين جمعوا أطراف الإحسان وأقطار المجد الدنيوي والأخروي من كل جانب. كانت فاعليتهم في ميادين الجهاد ضمان بقاء الدين واستمراره حتى اغترف الصوفية من ينبوع كان للصحابة رضي الله عنهم فضل تلقيه وصيانته والذود عنه والجلاد من دونه بالمال والسيف، وفضل نشره وتبليغ دعوته، وفضل قتال الكفر حتى باد الكفر، وفضل نصرة الحق حتى ظهر الحق. أهل الكمال حقا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق وعمر الفاروق وعثمان ذو النورين وعلي الإمام، ثم أهل بدر وبيعة العقبة وبيعة الرضوان وسائر مشاهد الإسلام. يوتي الله عز وجل فضله من يشاء كما يشاء. وقد آتى سادتنا الصوفية خيرا كثيرا. لكن أساليب العزلة وتربية الصمت والمجاهدة المنفردة في زماننا نكوص وبيت المقدس محتل، والأمة نهب مقسم، وجودها المعنوي مهدد، ورسالتها منكرة في عقر دارها. لسنا ممن يكيل للغزالي اتهامات كما يفعل فلاسفة الجامعات من بني جلدتنا. قضى الله وما شاء فعل، والتكليف علينا وحده هو المعتبر. تكليف الشرع أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ونجاهد في الله حق جهاده حتى تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى. مطلب شريف ومطمح منيف أن تحدث نفسك بأن تلحق بالصالحين وتكون من أولياء الله. ثم أن تصارع نوازع النفس والهوى ونزغات الشيطان وتتجرد للعمل وتشمر وتهجر كل ما سوى الله عز وجل. تلك طريق سلكها ذوو الهمم الرفيعة من الرجال أمثال أبي حامد، تعطرت بأنفاسهم الأزمان. لم يكن الدين غريبا في أزمنتهم، بل كانوا ساكنين تحت مطارق الأقدار الإلهية التي حكمت بأن يعيش المسلمون في ظل ملك عاض وجبري إلى أن يرفع الله جل جلاله تلك الحوبة التاريخية. الآن عاد الدين غريبا كما بدأ، فطوبى لغرباء أزمنتنا إن شمروا للالتحاق بركب الأخيار على متن الجادة الجهادية التي سلكها الصحابة في غربة الإسلام الأولى، حتى نصروا الدين وأقاموا للإسلام دولة وصرحا شامخا. تلك الجادة أوسع وأبعد منالا وأوفر نورانية لأنها جمعت بين الجهاد لتحقيق مطالب الأمة وبين المجاهدة لتحقيق المطلب الإحساني الفردي. في ظروف الغزالي وحدوده بالزمان والمكان والمطلب تجرد الغزالي لطلب "علم الآخرة" بعد تحصيل علوم الفقه وبعد جدال الفلاسفة ونيل الأوطار الدنيوية. "وتزيا بزي الصالحين، وقصر الأمل، ووقف الأوقات على هداية الخلق ودعائهم إلى ما يعنيهم من أمر الآخرة وتبغيض الدنيا والاشتغال بها على السالكين والاستعداد للرحيل إلى الدار الباقية والانقياد لكل من يتوسم فيه أو يشم منه رائحة المعرفة أو التيقظ بشيء من أنوار المشاهدة". إعراض عن الدنيا وإقبال على الله عز وجل وانقياد لأهل الخير. "وتفكر في العاقبة وما يجدي وما ينفع في الآخرة. فابتدأ بصحبة الفارمدي، وأخذ منه استفتاح الطريقة، وامتثل ما كان يشير به عليه من القيام بوظائف العبادات والإمعان في النوافل واستدامة الأذكار والجد والاجتهاد طلبا للنجاة، إلى أن جاز تلك العقبات". من عظماء الإسلام كثير لجأوا مثل الغزالي، قبله وبعده، إلى مربين يساعدونهم على جواز العقبات. لا تكاد تحصي الأمثلة للعلماء الذين ارتموا في أحضان العارفين تعج بذكرهم كتب التاريخ وطبقات المذاهب. من أجلهم سلطان العلماء شيخ الإسلام والمسلمين إمام عصره بلا مدافعة، الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر الذي كان في عصره ملاذ الأمة وحاميها من الحكام الظلمة. إنه عز الدين بن عبد السلام الصائل بعلمه في المجالس، الصائل بشجاعته في الحق، يهجم بكلمة الزجر والتأنيب على دواوين الحكام. مواقفه تشرف كل منتسب للعلم في كل زمان. كان رحمه الله أعبد الخلق وأتقاهم. حكى عنه ابن دقيق العيد، أحد الأكابر علما وتقى، أنه: "لبس خرقة التصوف من الشيخ شهاب الدين السهروردي وأخذ عنه". وذكر أيضا أنه: "كان يقرأ بين يديه رسالة القشيري فحضره مرة الشيخ أبو العباس المرسي لما قدم من الإسكندرية إلى القاهرة، فقال له الشيخ عز الدين: تكلم عن هذا الفصل. فأخذ المرسي يتكلم والشيخ عز الدين يزحف في الحلقة ويقول: اسمعوا هذا الكلام الذي هو حديث العهد بربه". قال السبكي: "وقد كانت للشيخ عز الدين اليد الطولى في التصوف، وتصانيفه قاضية بذلك". قال عز الدين سلطان العلماء: "أما تفضيل العارفين بالله على العارفين بأحكام الشرع فقول الأستاذ (القشيري) وأبي حامد (الغزالي) فيه متفق. ولا يشك عاقل أن العارفين بما يجب لله من أوصاف الجلال ونعوت الكمال وبما يستحيل عليه من العيب والنقصان أفضل من العارفين بالأحكام. بل العارفون بالله أفضل من أهل الفروع والأصول. لأن العلم يشرف بشرف المعلوم وبثمراته. فالعلم بالله وصفاته أشرف من العلم بكل معلوم من جهة أن متعلقه أشرف المعلومات وأكملها، ولأن ثماره أفضل الثمرات". هل كان فطاحلة علمائنا بهاليل مجانين حتى يزحفوا في الحلقة إعجابا بكلام العارفين وهم كانت ترتعد خوفا منهم فرائص الجبارين في الأرض؟ أم أنهم لم يجدوا في كتب الرقائق والوعظ ما يروي الغلة حتى ينقادوا للمشايخ ويتتلمذوا بأدب؟. هذه نصيحة من أحد كبار فقهائنا عسى أن يقرأها من يوصون بـ"التصوف السني الذي تحتويه بطون الكتب التي تكفي قراءتها والتضلع منها. قال القسطلاني صاحب المؤلفات المشهورة:وإن كان مرادك أن تصير بقراءتها (أي كتب القوم) صوفيا محققا فوالذي فلق الحبة وبرأالنسمة لو قرأت من هذه الكتب عدد رمل عالج في مدة عمر نوح لم تصر صوفيا حتى يلج الجمل في سم الخياط. إنما التصوف الدؤوب في الطاعات، وترك المخالفات، وفطم النفس عن المألوفات، وعدم التطلع إلى ما في أيدي الناس من الأموال المباحات فضلا عن الشبهات، وترك التوسل بالخلق، والاعتماد على الله في كل الحالات". يفتي القسطلاني بحرمة قراءة الكتب المشتملة على العبارات الغامضة والشطحات. وينصح بعدم تضييع الوقت في طلب علم القوم، لأن العلم بلا عمل بطالة. وكانت سعادته بلقاء الشيخ شهاب الدين السهروردي، وهو ابن أخ الشيخ أبي النجيب السهروردي الأشهر، لبس منه خرقة التصوف. وكان تقي الدين بن دقيق العيد شيخا إماما زاهدا محدثا حافظا ورعا فقيها بلغ درجة الاجتهاد المطلق. قال السبكي : ولم ندرك أحدا من مشايخنا يختلف في أن ابن دقيق العيد هو العالم المبعوث على رأس السبعمائة المشار إليه في الحديث المصطفوي النبوي صلى الله عليه وسلم، وأنه أستاذ زمانه علما ودينا".هذا الإمام الأوحد في قرنه سلك طريق القوم على يد الشيخ الصالح كمال الدين بن عبد الظاهر الهاشمي. وكانت له كرامات كثيرة. نختم حديثنا عن الفقهاء الصوفية، وقد اقتصرنا على الأشهرين من الشافعية، بذكر التقي السبكي أحد أعلام الأمة الذي كان يدعى بالشافعي الثاني، وناهيك بالتشبيه. تصدى التقي السبكي، والد مؤلف الطبقات، لمسائل شيخ الإسلام ابن تيمية وعارضه في اجتهاداته الشاذة عن الإجماع في موضوع زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وفي قضية الطلاق المعلق وغيرها. كانت اضطرابات ابن تيمية رحمه الله وسجنه وما لحقه ولحق أصحابه من أذى نتيجة لما يسمى "مسائل" ابن تيمية. وهي بضع وستون مسألة في أصول الدين وقضايا الفقه خالف فيها علماء عصره. لم يكن الفارس الحنبلي في زمانه وتفرده بآرائه وحدته المرجع المطلق كما هو الشأن في هذه الأزمان التي فتحت فيها أبواب الخزائن لتنشر كتبه من دون كتب خصومه. يقول الحافظ الذهبي الناقد اللاذع عن شيخه التقي السبكي في كتابه "المعجم المختصر" كما نقل عنه عبد الوهاب السبكي في الطبقات: "القاضي الإمام العلامة الفقيه المحدث الحافظ فخر العلماء تقي الدين أبو الحسن (...) وكان صادقا ثبتا خيرا دينا متواضعا حسن السمت من أوعية العلم. يدري الفقه ويقرره، وعلم الحديث ويحرره، والأصول ويقررها والعربية ويحققها (...) وقد بقي في زمانه الملحوظ إليه بالتحقيق". شهادة إنصاف. كان "ملحوظ زمانه" هذا ومحققه كلفا بالصالحين ومعاشرتهم، كثير العبادة والذكر، مستجاب الدعوة، ظاهر الكرامات. "وكان كثير التعظيم للصوفية والمحبة لهم. ويقول: طريق الصوفي إذا صحت هي طريق الرشاد التي كان السلف عليها". يعظمه الذهبي ويقول: "ما صعد هذا المنبر بعد ابن عبد السلام أعظم منه". قال عبد الوهاب السبكي: "وصح من طرق شتى عن الشيخ تقي الدين ابن تيمية أنه كان لا يعظم أحدا من أهل العصر كتعظيمه له، وأنه كان كثير الثناء على تصنيفه في الرد عليه". رحمهم الله جميعا وإيانا وعفا، إنه العفو الغفور.....) ، كتاب الأحسان الجزء الأول الطبعة الأولى 1998. نسأل الله أن يرحمنا آمين.
دراسات في التصوف، في رحمة القلب وحكمته و طيش الروح و استبداد العقل