عدد المساهمات : 472 نقاط : 1426 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 24/05/2013
موضوع: كيف تعامل أهل البيت (عليهم السلام) مع الناس الثلاثاء يوليو 30, 2013 2:51 am
إن اقتحام العقول والنفوس بغية التأثير في الناس ، أصعب بكثير من اقتحام المواقع والثغور، وذلك لأن الناس يختلفون اختلافاً بيناً في طريقة التفكير، وفي مركب المزاج وفي مستوى الثقافة وفي القدرات الجسدية والطبيعة النفسية…الخ. ونتيجة لكل ذلك، تصبح عملية التعامل معهم والتأثير فيهم عملية صعبة وشاقة، وتحتاج إلى قدرات ومتطلبات من نمط خاص، لا تتوفر إلا عند الخواص من أهل الصبر والعلم بمواقع الأمر. وأهل البيت (عليهم السلام) في مقدمة هذا الطراز الرفيع من القادة، الذي تمكنوا من اجتذاب الناس وامتلكوا أزمة قلوبهم، ومفاتيح عقولهم.0 وفي هذا البحث سنورد أهم الخصال والخصائص التي يتحلى بها أهل البيت (عليهم السلام) والتي تمكنوا من خلالها كسب قلوب الناس، والولوج إلى نفوسهم مع اختلاف مشاربهم وتباين طباعهم ومستوياتهم. القدوة الحسنة
الناس عادة لا تتأثر بلسان المقال، بقدر ما تتأثر بلسان الحال، فمن يدعو الناس إلى الجهاد وهو قابع في بيته، لن يتجاوبوا مع دعوته، والذي يحث الناس على البذل والتضحية والعطاء وهو شحيح لن يلقى آذاناً صاغية منهم ويكون موضعاً لتندرهم… وما إلى ذلك. إن قائداً كهذا قد يتمكن من خداع الناس من حوله. من هنا ندرك أبعاد نصيحة الإمام عليّ (عليه السلام) لولاة الأمر عندما قال (عليه السلام): (من نصب نفسه للناس إماماً، فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه..)(1). وهناك شواهد كثيرة تشهد لأهل البيت بالسيرة الحسنة من كلم طيب وفعال حميدة وخصال فريدة… جاء في كتاب الكافي عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) قال: (إن أمير المؤمنين صاحب رجلاً ذمياً… فقال له الذمي أين تريد يا عبد الله ؟ قال: أريد الكوفة فلما عدل الطريق بالذمي عدل معه أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال له الذمي: ألست زعمت أنك تريد الكوفة؟ فقال له (عليه السلام) : بلى، فقال له الذمي فقد تركت الطريق فقال له: قد علمت. قال: فلم عدلت معي وقد علمت ذلك. فقال له أمير المؤمنين: هذا من تمام حسن الصحبة، أن يشيع الرجل صاحبه هنيهة إذا فارقه، وكذلك أمرنا نبينا (صلى الله عليه وآله) فقال له الذمي هكذا…قال: نعم قال: إنما تبعه من تبعه لأفعاله الكريمة، فأنا أشهدك إني على دينك. ورجع الذمي مع أمير المؤمنين (عليه السلام) فلما عرفه أسلم) (2). وقد توحدت مواقف الأئمة في المضمون وإن اختلفت في الشكل، فقد كانوا قدوة حسنة تتأثر الناس بأفعالهم، ولم يك ذلك منهم تصنعاً وإنما طبعاً متأصلاً يطبع سلوكهم سواء في ظروف الرخاء واليسر أو في ظروف الشدة والعسر، من الإمام الأول إلى الإمام الحادي عشر إذا ما استثنينا زمان الغيبة… يدخل أحد القادة العباسيين على صالح بن وصيف عندما أمر بحبسالإمام العسكري (عليه السلام) فقال له: ضيق عليه ولا توسّع فقال له صالح: ما أصنع به؟ وقد وكلت به رجلين شرّ من قدرت عليه، فقد صارا من العبادة والصلاة إلى أمر عظيم(3). وبدورنا نتساءل: ما الذي جعل الذمي يترك دينه ويصبح مسلماً؟ وما الذي جعل السجان يتأثر بسجينه ويصبح عابداً؟ إنها القدوة الحسنة.. أليس كذلك؟ موقفان رائعان من جملة المواقف الخالدة، اتصلت حلقات الزمن ببعضها، وسوف تتناقلها الأجيال وتقتدي بها ما طلعت شمس ولاح في السماء نجم. الصبر، العلم، الرّفق كسب الناس يحتاج إلى الصبر عليهم، والحلم والرفق بهم. والناس عموماً يمقتون من يتعامل معهم بالقسوة والغلظة، وصدق الله تعالى عندما قال لرسوله (صلى الله عليه وآله): (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)[آل عمران: الآية159]. وقد وعى أهل البيت (عليهم السلام) وهم تلاميذ القرآن تعاليمه بعمق وجسدوها قيماً عالية وسلوكاً سوياً في تعاملهم بصورة خاصة مع أعدائهم فضلاً عن أتباعهم والمحيطين بهم. وما أكثر ما تحمل أهل البيت (عليهم السلام) من خصومهم الذين صبوا عليهم جام غضبهم بمختلف الأشكال والصور من تهم رخيصة وأساليب تشنيع دنيئة إلى وسائل قتل شنيعة…وما إلى ذلك من ضروب الجور والظلم والتعسف، حتى إن أعدائهم قد انحدروا أحياناً في سلوكهم معهم إلى درجات الدهماء والغوغاء. ومع كل ذلك كان أهل البيت يشقون أمواج الفتن بسفن الصبر على ما يصيبهم، ويحلمون عن سفهاء قومهم وفوق ذلك يرفقون بهم ويحسنون إليهم ويغضون الطرف عن أخطائهم وسوف نستعرض شواهد عديدة إلى ما أشرنا إليه. ونبدأ من أبي الأئمة الإمام علي (عليه السلام) الذي كان أحلم الناس.. (وكفانا لإثبات بلوغه أعلى درجات الحلم عن أهل (الجمل) عموماً وعن مروان بن الحكم وعبد الله بن الزبير خصوصاً فقد ظفر بمروان يوم الجمل وكان أعدى الناس له فصفح عنه وكان عبد الله بن الزبير من أعدى الناس له وكان يشتمه على رؤوس الإشهاد فأخذه يوم الجمل أسيراً فصفح عنه وقال: اذهب فلا أرينك لم يزده على ذلك، وظفر بسعيد بن العاص بعد وقعة الجمل بمكة وكان له عدواً فأعرض عنه ولم يقل له شيئاً ولم يعاقب أحداً من أهل الجمل وأهل البصرة، ونادى مناديه ألا يتبع موّلٍ ولا يجهز على جريح ولا يقتل مستأسر ومن ألقى سلاحه فهو آمن.. ولما ملك عليه أهل الشام الشريعة ومنعوه وأصحابه من الماء ثم ملكها عليهم قال له أصحابه أمنعهم كما منعونا فقال: لا والله لا أكافيهم بمثل فعلهم. وكان يوصي جيوشه أن لا يتبعوا مدبراً ولا يجهزوا على جريح)(4). وعن يزيد بن بلال قال: شهدت مع عليّ صفين فكان إذا أتي بالأسير قال: لن أقتلك صبراً، إني أخاف الله رب العالمين، وكان يأخذ سلاحه ويحلفه لا يقاتله ويعطيه أربعة دراهم(5). وقد سار أبناؤه الهداة المهديين على نهجه القويم، ينطلقون في تعاملهم مع الأعداء من موقع الحب لهم والرحمة بهم، وكانوا يستنقذونهم من السلوكيات السيئة ويقشعون من أذهانهم الأفكار العدائية المسبقة التي زرعتها أبواق الدعاية المأجورة لحكام الجور. ينقل حسن المصطفوي مؤلف كتاب الإمام المجتبى عن الكامل للمبردج1ص235: (أن رجلاً من أهل الشام قال: دخلت المدينة فرأيت رجلاً راكباً على بغلة لم أر أحسن وجهاً ولا سمتاً ولا ثوباً ولا دابة منه، فمال قلبي إليه فسألت عنه فقيل لي: هذا الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، فامتلاء قلبي له بغضاً وحسدت علياً أن يكون له أبن مثله، فصرت إليه فقلت له أنت أبن أبي طالب؟ فقال أنا أبنه. فقلت فيك وبأبيك أسبهما! فلما انقضى كلامي، قال لي أحسبك غريبا!ً قلت أجل. قال: فمل بنا فإن احتجت إلى منزل أنزلناك وإلى مال آسيناك أو إلى حاجة عاوناك! قال فانصرفت عنه، و والله ما على الأرض أحد أحب إلي منه). من الشواهد أعلاه نخرج بانطباع مؤداه أن أهل البيت (عليهم السلام) كانوا لا يكتفون بالصبر والحلم عمن يسيء إليهم بل يرتقون إلى قمة الإحسان إلى الآخرين، ولهذا فقد فتحت قلوب الناس نحوهم وأكسبتهم المدح والثناء الجميل وهو أمر صرح به أكثر من عدو لهم فعلى سبيل المثال: كان هشام بن إسماعيل أمير المدينة الأموي يؤذي الإمام علي بن الحسين (عليهما السلام) كثيراً فلما عزل من منصبه أمر الوليد أن يوقف أمام الناس للقصاص. فقال هشام ما أخاف إلا من علي بن الحسين.
فمر به الإمام السجاد (عليه السلام) وألقى عليه التحية والسلام وطلب من خاصته وأصحابه أن لا يتعرضوا له بسوء حتى ولو بكلمة جارحة… فلما انصرف الإمام ناداه هشام بقوله: (الله أعلم حيث يجعل رسالته). نفس هذا الموقف المشرف وقفه الإمام الرضا (عليه السلام) الثامن من أئمة أهل البيت إذ بلغ القمة في الحلم عندما تشفع إلى المأمون في (الجلودي) وهو الذي ذهب إلى المدينة بأمر الرشيد ليسلب نساء آل أبي طالب ولا يدع على واحدة منهن إلا ثوباً واحداً. وبقي يناصب أهل البيت العداء المقيت ولما تمت بيعة الرضا (عليه السلام) لولاية العهد، احتج عليها ونقم فحبسه المأمون، ثم دعا به من الحبس ليقتله، فقال الرضا (عليه السلام) للمأمون العباسي: (هبلي هذا الشيخ)…فظن الجلودي أن الإمام يعين عليه ويضمر له الشر، فاقسم على المأمون، أن لا يقبل قول الرضا فيه، فقال له المأمون: والله لا أقبل قوله فيك وأمر بضرب عنقه، ولولا سوء ظنه، لتمكن الإمام (عليه السلام) من إطلاق سراحه، والإبقاء على حياته. وهناك شواهد كثيرة لتعاملهم مع الناس العاديين الذين لا يضمرون لهم العداء ولكن يسيئون التصرف معهم منها: أن الحسين (عليه السلام) قد جنى غلام له جناية توجب العقاب، فأمر بضربه فقال: يا مولاي الكاظمين الغيظ قال (عليه السلام) خلوا عنه، فقال يا مولاي والعافين عن الناس، قال (عليه السلام): قد عفوت عنك، قال يا مولاي والله يحب المحسنين، قال (عليه السلام) أنت حر لوجه الله ولك ضعف ما كنت أعطيك. وهناك موقف لولده السجاد (عليه السلام) الذي يقول كما يروي الشيخ في الآمالي ما تجرعت جرعة أحب إلي من جرعة غيظ أعقبها صبراً، وما أحب أن لي بذلك حمر النعم. ينتهي (عليه السلام) ذات يوم إلى قوم يغتابونه، فوقف عليهم فقال: إن كنتم صادقين فغفر الله لي، وإن كنتم كاذبين فغفر الله لكم. وذات الإساءة مع اختلاف التفاصيل، يتعرض لها ولده الباقر (عليه السلام) فعن المناقب لابن شهر آشوب قال له رجل من أهل الكتاب أنت بقر، قال (عليه السلام): لا..أنا باقر، قال الرجل: أنت ابن الطحانة. قال (عليه السلام) ذاك حرفتها. قال الرجل: أنت ابن السوداء الزنجية البذيئة. قال (عليه السلام): إن كنت صدقت غفر الله لها، وإن كنت كذبت غفر الله لك. بهذه الروحية العالية والأخلاق الرفيعة، يتعامل أهل البيت (عليهم السلام) مع أعدائهم ومن أساء التصرف معهم.. كانوا يتمسكون دائماً بثالوث: الصبر والحلم والرفق.