تأملات في آي الذكر الحكيم
قال الله تعالى
قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) [الأنعام/145].
عند التأمّل في هذه الآية الكريمة يتبادر سؤالان؛ الأول : هو كيف حُصِرَت جميع المحرمات الإِلهية (في مجال الأطعمة ) في أربعة أشياء، مع أنّنا نعلم بأنّ الأطعمة المحرمة لا تنحصر في هذه الأشياء الأربعة؟!
والثاني: أنّه ذكرت لفظة «فسقاً» بدلا عن كلمة «الحيوان»، فلم يقل: أو حيواناً أهل لغير الله، فالميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير وُصِفت بأنَّها ( رِجْسٌ)، وغيره من الحيوانات التي أهلت لغير الله وُصِفت بأنَّها (فِسْقٌ)، فما الحكمة في ذلك؟
وللجواب على السؤال الأول يقال:
عند التأمُّل في الآيات المتقدِّمة على هذه الآية كقوله تعالى
وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ ) [الأنعام/139]، وقوله تعالى: (ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)[الأنعام/143] يظهر بأنَّ هذه الآية نزلت فقط لتنفي الأحكام الخرافية التي كانت شائعة وسائدة في أوساط المشركين، بهدف تمييز المحرمات الإِلهية عن البِدِع التي أحدثها المشركون وأدخلوها في الدين الحق ، فالحصر في هذه الآية (حصر إضافيّ) لا حصر حقيقيّ، إضافة إلى أنَّ الحصر فيها هو حصر قلب ، ويسمَّى (قصر قلب)،وبعبارة أُخرى: كأنَّ الآية تقول: المحرمات الإِلهية هذه، وليس ما نسجته أوهامُكم.
ولكي تتضح هذه الحقيقة لا بأس بأنّ نضرب لذلك مثلا، إذا كان مَن يعتقد بأنَّ زيداً كاتباً و فقيهاً ، وأردت أن تبين له الحقيقة و تقلب عليه اعتقاده ، فتقول له: ما زيدٌ إلاَّ شاعرٌ ، فقد نفيت عنه صفة الكتابة و الفقه ، وأثبت له صفة الشعر و هذا لا يعني أنه ليس له صفات أخرى غير الشعر ، وهذا هو ما يسمى بقصر القلب ، والحصر الإضافي (أو النسبيّ).
فالحصر في هذه الآية هو حصر إضافي (أو النسبيّ) لقلب اعتقاد الكفار فيما كانوا يعتقدون بحرمته، لذا حُصِرَت المحرمات الإِلهية في أربعة أنواع من الأطعمة.
وقيل : إنَّه خص هذه الأشياء بذكر التحريم مع أن غيرها محرم مما ذكره تعالى في المائدة كالمنخنقة و الموقوذة لأنَّ جميع ذلك يقع عليه اسم الميتة وفي حكمها ، فبين هناك بالتفصيل وهنا بصورة مجملة .
وقيل : خص الله هذه الثلاثة تعظيما لتحريمها وبين ما عداها في موضع آخر .
وقيل : انه تعالى خص هذه الأشياء بنص القرآن ، وما عداه ذكر في مواضع أخر إما بنص القرآن و إما بوحي غير القرآن.
وقيل: هذه الآيات نزلت في مكّة وحكم الأطعمة المحرمة الأُخرى لم ينزل بعدُ فإنَّ ما عداه حُرِّم فيما بعد بالمدينة والسورة مكية ، ورد هذا القول بأنّ نفس هذا التعبير أو نظيره قد ورد في السُوَر المدنية مثل (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) [البقرة/173]
وللجواب على السؤال الثاني:
قيل : يمكن أن يكون في ذلك إِشارة إِلى أنّ اللحوم المحرمة على نوعين:
النوع الأوَّل: اللحوم المحرّمة لخباثتها بحيث تنفر منها الطباع، وتوجب أضراراً جسدية، كلحوم الحيوانات التي ماتت ولم تذكَّى قبل موتها، ولحم الخنزير، والدم، فأُطْلِقَ عليها وصف الرجس (أي النجس).
والنوع الآخر من اللحوم التي لا تعدّ من الخبائث، ولا تستتبع أضراراً جسميّة وصحيّة، ولكنّها من الناحية الأخلاقية والمعنوية تدلُّ على الابتعاد عن الله وعن جادة التوحيد،وهي التي لم يذكر عليها اسم الله عند ذبحها فأُطْلِقَ عليها وصف الفسق، و (الفسق) يعني الخروج عن طاعة الله وعن رسم العبودية، ولهذا يُطلق على كل معصية عنوان الفسق.