تشتمل هاتان الآيتان على بحوث تحتاج إلى شيءٍ من التفصيل والتحقيق نذكرهما – بعون الله - بعد ذكر مقدمة تمهيدية حول الآيتين ومفادهما.
استعرض الله تبارك وتعالى في هاتين الآيتين من سورة الإسراء منظراً ومشهداً من مشاهد يوم القيامة العامة ومناظرِها، فصوّر لنا جلّ وعلا الخلائق وكأنّها محشورة على صعيدٍ واحدٍ المهتدي منها والضال والبر والفاجر والراعي والرعية والإمام والمأموم وصارت كل جماعة منها تنادى وتدعى بالإمام الذي ائتمّت به وبمنهجه الذي كان عليه في الحياة الدنيا من أئمة الهدى والعدل المتبعة لنهج الحق والسعادة وأئمة الضلال والجور المتبعة لنهج الباطل والشقاء.
تُدعى كلّ جماعةٍ بإمامها – أي تدعى باسمه أو معه – ليُسلَّم لها كتاب عملها وفيه بيان جزائها في الدار الآخرة لكل فردٍ منها قال تعالى: ]وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسـِيبًا[ [الإسراء/14-15].
وإنما تدعى كل جماعةٍ بإمامها لأن الإمام – لغةً – هو المقتدى الذي يُقْتدى به ويُتّبع في أوامره ونواهيه، فقد يكون لاناسٍ إمام هدى وقد يكون لاناسٍ آخرين إمام ضلالة، وقد سمّى الله سبحانه وتعالى في القرآن باسم إمام وأئمة أفراداً من البشر وجماعات يهدون الناس بأمره تعالى كما في قوله مخاطباً خليله إبراهيم(عليه السلام): ]إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ[ [البقرة/125]، وقال تعالى في مدح جملةٍ من الأنبياء: ]وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ[ [الأنبياء/74]، وقال تعالى: ]وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ[ [السجدة/25].
كما سمّى جل وعلا جماعةً آخرين – أيضاً – أئمة ولكن يُقْتدى بهم في الضلال، وإنهم يدعون إلى النار، وأضافهم إلى الكفر، وأمر بقتالهم لعدم وفائهم بأيمانهم كما في قوله تعالى:]فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ[ [التوبة/12]، وقال تعالى:]وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يُنصَرُونَ[ [القصص/42].
أما المراد من أئمة الهدى، وأئمة الضلال فمعلوم أن أئمة الهدى والحق هم الذين يجتبيهم الله ويختارهم في كلّ زمان لهداية أهله، أنبياء كانوا كإبراهيم الخليل ومحمد الحبيب(صلى الله عليه و آله) أو غير أنبياء كأوصياء الأنبياء السابقين، وكأئمة الهدى من آل محمّد(صلى الله عليه و آله) وهم جميعاً يدعون الناس إلى الهدى بأمر الله لا بأمرهم ويقدّمون أمر الله قبل أمرهم وحكم الله قبل حكمهم، ويؤيدهم الله سبحانه بالمعجزات وخوارق العادات التي يجريها على أيديهم لتكون دليلاً على صدقهم، وأئمة الضلال والباطل هم الذين تسلّطوا على الناس بالقوة، أو اتخذهم بعض الناس أئمة واختاروهم واقتدوا بهم في الدنيا بدون تشريع وإذنٍ خاصٍ من الله ورسوله، وهؤلاء يدعون إلى النار لأنهم يقدمون أمر قبل أمرهم الله وحكمهم قبل حكم الله، ويأخذون بأهوائهم وأهواء اتّباعهم خلاف ما في كتاب الله، والله تعالى يقول:]وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَاوَاتُ وَالأْرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ[ [المؤمنون/72].
ومن المعلوم أن الله سبحانه قادر على عدم تمكينهم من السلطة والحكم ولكن قد يمكّن ويبقي أناساً على ذلك، وقد يحول بين بعضهم وبين ما يريدون، وذلك كله اختباراً لعباده وامتحاناً لهم ليرى ويشاهد مَن يتبع الحق وأهله ومَن يتبع الباطل وأهله(1).