المقصد الأول
أحكام المصارف
تقديم
المؤسسات المالية الموجودة في العالم اليوم, على عدة أشكال ومستويات وأهداف، حتى إننا نستطيع أن ننظر إلى أية دولة على إنها مؤسسة مالية. وكذلك وزارة المالية في أية دولة, ووزارة الأقتصاد, ووزارة التجارة, ووزارة الصناعة وغيرها. وكذلك [سوق البورصة] وهي سوق تبادل العملات. وكذلك الشركات التجارية المساهمة، سواء كان رأس مالها أهلياً أم حكومياً أم مشتركاً. وسواء كانت تجارتها بالمال مباشرة أم بالعروض، هذا مضافاً إلى المصارف أو البنوك التي نتحدث عنها هنا. ولعل أفضل تعريف عام لها هو : إنها المؤسسات المالية التي تمارس التجارة بالمال نفسه جزئياً أو كلياً, على أن يكون المال المستعمل لديها متكوناً من رأس مال أصلي وإيداع إضافي.
ويمكن تقسيم المصارف إلى عدة, تقسيمات لكل منها عدة أقسام :
التقسيم الأول : من حيث أهميتها وتأثيرها في المجتمع. وهي تنقسم بهذا الإعتبار إلى بنك مركزي وبنوك أساسية وبنوك فرعية.
التقسيم الثاني : من حيث أخذ المصرف بالأسلوب الربوي للتعامل, وهو دفع الفوائد واخذها، وعدم ذلك.
التقسيم الثالث : من حيث أهدافها، يعني إختلاف الشريحة الإجتماعية التي تختص بها وتقدم لها الخدمات. فهناك بنوك عامة, وهناك بنوك خاصة بالصناعة أو بالزراعة أو بالبناء أو غير ذلك.
التقسيم الرابع : من حيث رأس مالها, على أعتبار كونه قد يكون أهلياً صرفاً أو حكومياً صرفاً أو مشتركاً.
التقسيم الخامس : إن مؤسسي المصرف قد يكونون مسلمين, وقد يكونون ذميين, وقد يكونون كافرين.
التقسيم السادس : من حيث أعمال البنوك. فمثلاً بعض البنوك مخول بإصدار العملة، وهي البنوك المركزية دون غيرها. وبعضها مخول بالتحويل والتجارة الخارجية, وبعضها غير مخول، وبعض البنوك يقتصر على إسلوب الإسترباح في حدود إختصاصه, وهو التجارة بالنقد. وبعضها الآخر يحاول التوسع في إستغلال رأس ماله في تجارات وإستثمارات خارجية. وهكذا.
وسنتكلم بعون الله تعالى فيما يلي عن الأحكام الشرعية للمصارف، من جانب إنتفاع المجتمع بها وعلاقته معها، بغض النظر عن صحة نظامها الداخلي وأسلوبها الخاص. يعني نعتبر أن السائل لهذه المسائل هو [عميل] المصرف وليس مؤسسه أو الموظف فيه.
أحكام عامة
[مسألة 1296] ليس للمصارف من الناحية الشرعية شخصية معنوية أو قانونية مستقلة، يمكنها بها أن تكون طرفاً للمعاملة. ما لم يكن المصرف أهلياً صرفاً، فيكون التعامل مع مالك رأس المال أو وكيله رأساً. وبدونه لا بد في التعامل من أخذ الأذن من الحاكم الشرعي.
[مسألة 1297] لا يجوز التعامل مع المصارف الربوية التي يكون راس مالها أهلياً أو مشتركاً. يعني مع وجود رأس مال أهلي فيها, وإن كان قليلاً. فلا يجوز الإيداع فيه والسحب منه، فضلاً عن أخذ الفائدة. وإنما يجوز التعامل مع المصارف الحكومية الخالصة والمصارف غير الربوية.
[مسألة 1298] إن تم الإيداع غفلة أو عصياناً أو نسياناً في المصارف التي أشرنا إلى عدم جواز التعامل معها، جاز السحب منها بمقدار رأس المال. ولا يجوز سحب الفائدة بأي حال. كما لا يجوز دفع الفائدة من قبل المستفيدين من أموال المصرف. وإنما يجوز التصرف برأس المال المسحوب من هذه المصارف بعد تخميسه لإنه من المال الحلال المختلط بالحرام.
[مسألة 1299] لا يجوز الإيداع في أي مصرف بقصد إستحقاق الفائدة. فإن هذا إستحقاق غير مشروع في الدين. نعم، لا يبعد الجواز - في المصارف الحكومية - بقصد الطمع بالفائدة بدون إستحقاقها. بعنوان الحصول على كمية من المال المجهول المالك. مع علم المودع إن المصرف سوف يدفعها إليه على أي حال. وهذا لا ينطبق على المصارف التي قلنا بحرمة الإيداع فيها. فإن الطمع بفوائدها محرم أيضاً.
[مسألة 1300] كل الأموال المسحوبة من المصارف المتعارفة, هي من مجهول المالك، سواء أعتبرها المصرف أو المودع من رأس المال أم من الفائدة. ولا يجوز التصرف فيه إلا بإذن الحاكم الشرعي. أما المصارف التي أشرنا إلى حرمتها، فلا يوجد فيها إذن بالتصرف حتى لو علمنا إن ما دفعه المصرف هو من المال المجهول المالك.
[مسألة 1301] يوجد من قبلنا إذن عام في التصرف بمجهول المالك. سواء مما يسحب من المصارف أو غيره كرواتب الموظفين وأجور العمال وغيرهما. وذلك في مرحلتين :
المرحلة الأولى : إننا نشترط أن لا يكون المال المقبوض [من ظلم ولا إلى ظلم ولا على حد السرقة] يعني أنه لم يتم الحصول عليه بظلم, ولا إنه يصرف في ظلم أو حرام, ولا أنه من قبيل السرقة من مجهول المالك أو من الدولة. فإن هذا خارج عن الأذن. وما إجتمعت فيه الشرائط الثلاثة فهو مأذون فيه.
المرحلة الثانية : أن يقول الفرد حين يقبض المال : أقبضه نيابة [أو وكالة [عن الحاكم الشرعي أو [يذكر أسمه] وأتملكه لنفسي. فإذا قال ذلك أصبح المال ملكاً له. كأحد ممتلكاته. فإن كان لديه رأس سنة للخمس، صرف منه على مؤونته. فإن بقي منه باق في رأس السنة دفع خمسه، وإن لم يكن له رأس سنة وجب دفع خمسه فوراً. وجاز تصرف الفرد في الباقي.
[مسألة 1302] لا يفرق في حكم المسالة السابقة بين أن يكون المال المسحوب من المصرف معتبراً من رأس المال أو من الفائدة. كما لا يفرق في كمية المال المسحوب قليلاً أو كثيراً. كما لا فرق بين كونه بعنوان التوفير أو لحساب الجاري أم غيرها.
[مسألة 1303] يجب على الفرد أن ينوي ما أشرنا إليه من قبل التصرف بالمال المقبوض. أو فور قبضه. فإن تصرف فيه بدون ذلك القصد، كان تصرفه حراماً. ويترتب عليه إشتغال ذمته به. وهو ما يسمى [برد المظالم] ويجب عليه عندئذ أن يطبق أحكامها. وذلك بدفعها كلها إلى الحاكم الشرعي. ما لم يأذن له بالتقسيط أو إبراء الذمة من البعض أو الكل.
[مسألة 1304] المال المودع في أي مصرف، وبأي عنوان كان، لا يعتبر تالفاً أو مفقوداً من مالكه، ما دامت الحجة الشرعية أو الأمارة القانونية لديهم موجودة على وجوده. ونعلم أن المصرف سوف يدفعه لدى المطالبة. نعم، إذا ضاعت الوثائق الدالة على وجود المال, أو أصبح المصرف ممنوعاً من دفعه, أو أسقطه عن نظر الإعتبار, كالمال الذي مر عليه أكثر من ستة عشر عاماً بدون حركة، ونحو ذلك. كان مالاً تالفاً.
[مسألة 1305] يترتب على ما قلناه - من عدم تلف المال بالإيداع - أن هذا المال المودع يبقى على ملك صاحبه شرعاً، فيجب تخميسه وقضاء الدين وأثمان المعاملات, كالبيع والإيجار وغيرها به. ودفع الحقوق الشرعية المالية منه, كالفدية والكفارة وغيرها. ويجزي كل ذلك بعد إجراء القصد الذي ذكرناه فيما سبق. ويكون كذلك جزءاً من الإستطاعة للحج الواجب. وينطبق عليه دفع الزكاة الواجبة والمندوبة وغير ذلك.
[مسألة 1306] ما ذكرناه في المسألة السابقة لا يترتب على الفائدة التي يعترف بها المصرف لصاحب المال, وإن كثرت, ما لم يتم قبضها, لما أشرنا إليه فيما سبق من عدم إستحقاقه الشرعي لها وعدم ملكه أياها. فلا يجب تخميسها ولا دفع الدين أو الأثمان منها، ولا تكون بها إستطاعة الحج, كما إنها لا تذهب أرثاً بموت المودع.
[مسألة 1307] إن عرف الفرد أن أي شركة أو مصرف له تجارة محرمة شرعاً، كالتجارة بالخمور أو السرقات أو المشاركة في مصارف أهلية ربوية، حرم تعامله معها أو مشاركته في رأس مالها. وإن كان قد شارك فيها أو أودع لديها غفلة أو نسياناً أو عصياناً, أو أنه علم بهذه الصفة بعد الإيداع، وجب سحب حصته منها. وإن بقيت حصته فيها عصياناً أوجهلاً أو غفلة, حرم عليه أخذ الأرباح, وإن كانت من مجهول المالك، بل يأخذ مقدار رأس المال فقط. ويقوم بتخميسه, وله أن يتصرف في الباقي.
[مسألة 1308] لا تجوز السرقة من أي نوع من المؤسسات المالية, حتى لو كانت تتعامل بالشكل المحرم شرعاً. والسبب في ذلك بإختصار : إنها إذا كانت أهلية, كانت محتوية على أموال المشاركين فيها مضافاً إلى المال الحرام. وأما إذا كانت حكومية، فلإن الأخذ منها موقوف إلى إجازة الحاكم الشرعي. والمؤلف لا يجيز الأخذ منها بشكل السرقة. وهو كل وجه لا تقبل به الدولة, من أخذ المال والحصول عليه. وأما إذا كانت المؤسسة شركة مساهمة أهلية محللة, أو كان رأس مال شخصي، فالسرقة منه أوضح بالتحريم من الأقسام السابقة.
[مسألة 1309] يجوز الإيداع والسحب من الأقسام الآتية من المصارف. وهي المصارف ذات رؤوس الأموال مجهولة المالك, وهي المصارف الحكومية في اية دولة كانت في العالم اليوم. والمصارف غير الربوية التي تكون تجارتها محللة شرعاً، وكذلك المصارف التي يمتلك رأس مالها الكفار غير الذميين, ولم يشارك فيه مسلم بملكية خاصة, كالمصارف في الدول الكافرة، سواء كانت أهلية أو حكومية. وكذلك المصارف المشتركة بين الدول المسلمة والكافرة.
[مسألة 1310] لا يجوز التعامل مع أي مصرف يكون في التعامل معه مفسدة دينية أو إجتماعية معتد بها، بأي سبب كان. وهذا يرجع إلى صفات المصرف ومؤسسيه, وصفات التعامل وغير ذلك.
[مسألة 1311] إذا كان المصرف المتعامل معه كافراً، فأنه لا يتوقف التصرف في
السحب منه على إذن الحاكم الشرعي. وخاصة إذا كان أهلياً, وإن كان الإذن أحوط [ ] أكيداً. بل يمكن للمسلم أن ينوي التملك إبتداء على ما يقبض من المال فإن, كان له رأس سنة للخمس دفع خمسه عندئذ. وإلا دفع خمسه فوراً بعد السحب وتصرف في الباقي.
[مسألة 1312] إذا كان المصرف المتعامل معه متكوناً بالمشاركة بين رأس مال حكومي كافر وحكومي مسلم، توقف التصرف على المال المسحوب عنه على إذن الحاكم الشرعي، وكذلك لو كان متكوناً من رأس مال حكومي مسلم, ورأس مال شخصي كافر.
[مسألة 1313] سبق القول بانه لا يجوز التعامل مع المصرف الربوي الذي يشارك فيه رأس مال شخصي مسلم. وهذا ثابت سواء كان وحده أم مع رأس مال حكومي مسلم أم رأس مال كافر حكومي أم شخصي. أو كان بمشاركة عدة أطراف.
[مسألة 1314] إذا كان المصرف المسلم يمارس تجارة محرمة في الإسلام، لم يجز التعامل معه، كما سبق. وليس كذلك المصرف الكافر، إذا لم يكن بمشاركة مسلم. فإن بعض تلك المعاملات نافذة في دينهم، كبيع الخمر والخنزير. نعم لو ثبت أنه يمارس التجارة بطرق محرمة في دينهم حرمت المعاملة معه. كالصرف على الفحشاء والدعارة. ولو شككنا في ممارسته لذلك جاز التعامل معه.
[مسألة 1315] تصرف المتعامل مع المال الذي يملكه في المصرف, لا يحتاج إلى إذن الحاكم الشرعي, ما لم يحصل السحب منه. فإذا لم يحصل السحب جاز التصرف. كنقل مقدار من حساب شخص إلى حساب شخص آخر. وهذا يختص برأس المال المودع دون الفوائد, لإنه مملوك شرعاً دونها.
[مسألة 1316] لا يجوزالتصرف قبل السحب بمقدار الفائدة التي يسجلها المصرف للمتعامل، ولا يفيد إذن الحاكم الشرعي في تحليله, وأما مقدار الفائدة بعد السحب فقد سبق حكمه.
[مسألة 1317] يجوز الإشتراك في وظائف عمال المصارف التي قلنا بجواز التعامل معها. وإن كان الأحوط [ ] أخذ الإذن من الحاكم الشرعي به. ولا بد من تطبيق الحكم السابق على الراتب المقبوض بهذا الخصوص.
[مسألة 1318] لا يجوز الإشتراك في وظائف أعمال المصارف, التي قلنا بعدم جواز التعامل بها، ولا يحل أخذ الرواتب والأجور منها.
[مسألة 1319] ينبغي الحذر من المشاركة تعاملاً أو وظيفة في المصارف التي قلنا بجواز التعامل معها. فإن ذلك وإن كان جائزاً على القواعد الشرعية، ولكن قد يكون محرماً أحياناً, إذا أصبح من قبيل الإعانة على الظلم أو الأثم, أو مما يترتب عليه مفسدة دينية أو إجتماعية، ما لم تنطبق عناوين أخرى مجوزة كالضرورة والتقية.
[مسألة 1320] المصارف التي قلنا بجواز التعامل معها، لا يشملها حكم الربا. والتي لم نقل بالجواز فيها يشملها حكم الربا, ولا يجوز التخلص منه بالطرق التي ذكرناها في المسألة [301] من كتاب التجارة. أو ما ذكره بعضهم من طرق أخرى, فإن تلك الطرق إنما تجوز التعامل مع الفرد الإعتيادي غير المرابي. وأما المصرف الأهلي المسلم، فهو متعامل بالربا دائماً، فتخلصه من الربا بأزاء شخص معين يعني أنه سوف يدفع له من الأموال الحرام التي لديه، فيحرم تصرفه بها. نعم، لو كان ديدن المصرف الأهلي في كل معاملاته على ذلك جاز التعامل معه.
مسألة 1321] قال بعضهم : أنه لا يمكن التخلص من الربا ببيع مبلغ معين مع الضميمة بمبلغ أكثر. كأن يبيع ألف دينار بضميمة علبة كبريت بألف ومئة دينار. لمدة شهرين مثلاً. فإنه قرض ربوي وإن كان بيعاً صورة. أقول أشرنا : في المسألة [302] إلى المنع عن ذلك بإعتبار مانعين أحدهما : فقدان الجدية في المعاملة. ثانيهما : قلة نسبة الضميمة إلى رأس المال. فلو إنتفى الأمران صحت المعاملة وأرتفع الربا.
[مسألة 1322] المصارف المشتركة بين الملك الشخصي والمجهول المالك في رأس مالها الأصلي، ملحقة بالمصارف الأهلية بالمنع عن التعامل، لا إنها ملحقة بالمصارف الحكومية بالجواز. ولا يضر بهذا الجواز وجود الإيداعات الشخصية المتأخرة. كما لا يرفع المنع في تلك الموارد إيداع أموال مجهولة المالك فيها قلّت أو كثرت.
[مسألة 1323] المصارف أو المؤسسات, إذا جعلت جوائز للمودعين فيها أو نحو ذلك. فإنها تتبع في حليتها شرعاً حلية التعامل معها, فإن جاز التعامل جاز قبول الجوائز. وإلا فلا.
[مسألة 1324] المال المدفوع كجائزة من قبل المصرف أو المؤسسة، سواء كان عيناً أو نقداً، مما أشرنا إلى جواز التصرف فيه في المسألة السابقة، ينقسم إلى عدة أنواع :
النوع الأول : أن يكون من المال المجهول المالك. فيجب قبضه بهذه الصفة. كما سبق في المسألة رقم [1301].
النوع الثاني : أن يكون ملكاً شخصياً محللاً. فلا إشكال في التصرف فيه. بغض النظر عن وجوب خمسه حسب تكليف الفرد من هذه الجهة.
النوع الثالث : أن يكون ملكاً شخصياً محتوياً على تقصير شرعي، كما لو لم يدفع مالكه خمسه, أو كان من المال الحلال المختلط بالحرام. فيجب تخميسه، ويتصرف في الباقي.
النوع الرابع : أن يكون من الأموال الشخصية لكافر غير ذمي، فيجوز التصرف فيه بعد نية التملك عليه. بغض النظر عن خمسه كما قلنا في النوع الثاني.
[مسألة 1325] شعور الفرد الذي ظهر أسمه في الإقتراع بكونه مستحقاً للمال, شعور غير مشروع، وليس له المطالبة به، إلا إذا كان مشترطاً عن عقد لازم تام الصحة.
[مسألة 1326] المال الذي يعينه المصرف كجائزة، ولم يتم قبضها، مشمول لحكم الفائدة التي لم يتم قبضها، كما قلنا في المسألة رقم [1306].
فهذا مجمل من الأحكام العامة للمصارف, مما لا يختلف بعضها عن بعض، إلا في بعض التفاصيل القليلة، كما إنها لا تخص أسلوباً معيناً من التعامل, ولا نوعاً معيناً من عملاء المصرف. بل تشمل كل فعاليات المصارف. وندخل من الآن في النظر في تفاصيل هذه الفعاليات. بأن نشرح معناها أولاً كما يفهمها المصرفيون في غالب البنوك. ثم نعلق عليها بالحكم الشرعي الذي يخصها. وذلك ضمن العناوين التالية، مع تجنب التكرار مما سبق جهد الإمكان.
الإيداع
وهو على ثلاثة أقسام عندهم : التوفير والودائع الثابتة والحساب الجاري. ويدفع المصرف على القسمين الأولين فوائد ربوية دون الأخير. وفرق التوفير عن الودائع : إن التوفير يمكن سحبه أو السحب منه متى شاء المالك. على حين تكون الودائع الثابتة مشروطة بإنقضاء مدة معينة ليجوز السحب بعدها. وتنقسم الحسابات الجارية إلى ثلاثة أنواع :
أولاً : الحسابات الجارية الدائنة وهي الأعتيادية التي يقوم أصحابها بالإيداع فيها والسحب منها. في حدود الرصيد الدائن [المودع في المصرف], ولا يُسمح بتجاوزه.
ثانياً : الحسابات الجارية المدينة [المكشوفة]. وهي التي يمكن لإصحابها السحب منها بمبلغ أكثر من المبالغ المودعة فيها : لوجود تخصيصات مكشوفة لهم. يعني خالية من [الغطاء] وهو الرصيد أو الإيداع. ويمكن للمصرف أخذ الرهن عليه.
ثالثاً : الحسابات الجارية غير المقيمة. يعني التي لا يقيم المودع لها في البلاد بإستمرار. بإزاء القسمين السابقين اللذين يعطيان للمقيم.
وكلها لا تختلف من الناحية الفقهية الشرعية, من ناحية جواز الإيداع والسحب أحياناً, والمنع عنهما أحياناً, وجملة من الاحكام الأخرى التي أشرنا إليها فيما سبق, غير أن الجزء المخصص للحساب المكشوف يكون مشمولاً لما ذكرناه للفائدة المصرفية في المسألة رقم [1306]. وإن ما عليه الفهم المصرفي المعاصر, من كون الحساب الجاري كله معاملة واحدة, أو بمنزلة المعاملة الواحدة, بحيث يكون المحصل لها والناتج منها هو ما يحصل عند غلق الحساب, وليس ما يحصل قبل ذلك، إن هذا غير صحيح فقهياً, بل إن كل إيداع وكل سحب معاملة مستقلة.
نقل الحساب
وهو يتصور على أشكال عديدة, لإختلاف أنواع الودائع المصرفية, كالنقل من الحساب الجاري لشخص إلى الحساب الجاري لشخص آخر, أو إلى التوفير لشخص آخر. وقالوا : أنه يمكن أن يكون للفرد الواحد نوعان من الودائع, كالتوفير والحساب الجاري, أو يكون له نوعان من الحساب الجاري, كالحساب الأعتيادي والحساب المكشوف, فيمكن للفرد أن ينقل مبلغاً من أحد حسابيه إلى الحساب الآخر, تماماً كما يمكن النقل من حساب شخص إلى شخص آخر, نتيجة لوجود حساب بينهما, كدفع ثمن بضاعة أو ثمن دار أو كونه أرثاً أو غير ذلك, كما يمكن النقل من مصرف إلى مصرف, وهذا الأخير إنما يتم بالحوالات الداخلية والخارجية, وسيأتي الحديث عنه.
والنقل الذي نتحدث عنه بكل أنواعه التي سمعناها يمكن أن يتم بعدة طرق:
الأول : أن يتم السحب نقداً من الحساب الأول, ثم الإيداع في الحساب الثاني.
الثاني : أن يتم السحب والإيداع عن طريق الشيكات, أو أي ورقة مالية معدة للدلالة على المال, كالكمبيالة وغيرها.
الثالث : أن يتم النقل من حساب إلى حساب آخر عن طريق ما يسمى بالترحيل من قائمة إلى قائمة, بنقل رقم الحساب المسحوب إلى الحساب الساحب بدون شيك.
أما من الناحية الفقهية فوجود حسابين منفصلين لشخص واحد لا أثر له. والنقل من أحدهما إلى الآخر لا أثر له أيضاً, بل يعتبر كله ملكاً لصاحبه بإيداع مشترك في المصرف نفسه, إلا المخصصات المكشوفة كما سمعنا خلال الأحكام العامة السابقة, وأما إذا كان الحسابان لشخصين فلا إشكال من هذه الناحية في جواز التعامل بينهما بهما, في حدود المصارف التي يجوز التعامل معها مما سبق أن عرفناه. لا تختلف في ذلك كل أنواع الإيداعات حتى الحساب المكشوف. لكن بشرط أن يتم السحب منه نقداً.ً ويقبض قبضاً شرعياً بصفته مجهول المالك, ولا يجوز التعامل به قبل ذلك, لإنه ليس ملكاً لصاحبه شرعاً, غير أنه يجوز إيقاع المعاملات والدفع منه بعد سحبه وقبضه قبضاً شرعياً.
والظاهر انه لا إشكال بكل أنواع السحب الثلاثة في غير الحساب المكشوف, ويترتب عليها جميعاً ما يترتب على النقد من وفاء ما في الذمة من قرض أو دين أو حقوق شرعية, كالخمس والزكاة والكفارة أو إداء أمانة أو أرث أو غيرها. لكن إذا كان المسحوب نقداً كان من مجهول المالك, ووجب قبضه قبضاً شرعياً كما سبق, وأن كان مسحوباً عن طريق الشيك وجب على من يقبضه نقداً تطبيق نفس النية. وإن كان عن طريق الترحيل لم يجب ذلك القبض, لإن الرقم المسجل بالقائمة هو رقم المالية الكلية المملوكة فعلاً للمودع، وليست مجهولة المالك، فيمكن الدفع منها إلى قائمة شخص آخر, بإعتبار المالية الكلية المملوكة له بدوره في المصرف, وعلى هذه المالية الكلية تترتب الآثار الشرعية التي تحدثنا عنها في المسألة [1304] وما بعدها فراجع.
الشيكات
وهي أوراق مالية مصرفية يتم التداول أو التبادل بها عادة بدل العملات. بإعتبار أنها قابلة للتبديل بها في أي وقت. وقد عرفوا الشيك [الصك]بأنه أمر مكتوب صادر من الساحب [العميل أو المودع] إلى المسحوب عليه [المصرف] بدفع مبلغ محدد إلى طرف ثالث [المستفيد] من حساب الساحب، ويجب أن يشتمل الشيك على عناصر وبيانات محددة بالقانون. وهي مخصصة قانوناً للحساب الجاري بقسميه, الأعتيادي والمكشوف, ولا تشمل سائر الودائع. وإن كانت من الناحية النظرية يمكن أن تكون شاملة لها.
ومعه فيراد [بالعميل] الوارد عنوانه في التعريف : من يكون له في المصرف حساب جاري. وأما [المستفيد] فقد عرّفوه : بأنه حامل الورقة التجارية [الشيك] تظهيراً أو تحريراً. وهو الذي يحق له تسلم المبلغ المذكور فيها. وعرّفوا [التظهير]بأنه التوقيع على ظهر الورقة التجارية للتوكيد أو الضمان أو نقل الحق.
وقد قسموا الشيكات إلى عدة أقسام أهمها :
أولاً : الشيك المصدق أو المعتمد. وقد عرفوه : بأنه الشيك الذي يأشر عليه ملتزماً بدفعه.
ثانياً : الشيك المسطر. والتسطير عبارة عن وضع خطين متوازيين على وجه الشيك. والغرض منه هو التحقق من دفع قيمة الشيك إلى مالكه الحقيقي، خصوصاً في حالة سرقته أو ضياعه. والشيك المسطر لا يجوز لحامله أن يقبض قيمته نقداً من المصرف المسحوب عليه. وإنما يقيد بالحساب الجاري للمستفيد. ومن هنا لا يعطى إلا لمن كان لديه حساب جاري. فالدافع له والقابض معاً يكونان من هذا القبيل.
ثالثاً : الشيك المصرفي. وهو شيك مسحوب من مصرف على مصرف آخر. يعني ليس صادراً من فرد، بل من مصرف ذو حساب عند مصرف آخر.
رابعاً : الشيكات المتقاطعة. وهي الوسيلة التي يلجأ إليها بعض العملاء في إظهار أرصدة رمزية في مقابل السحب على حسابين للعميل في مصرفين مختلفين. إلى غير ذلك من أقسام الشيكات.
قالوا : والشيك كأي شيء آخر يمكن بيعه وشراؤه، أما بقيمته أو أقل، فيما إذا كان للمشتري مصلحة في ذلك، كما يمكن بيعه بالأكثر. والشيك الذي يمكن بيعه هو الذي تم تظهيره, وليس قبل ذلك. وعندئذ فبدلاً من أن يكون المستفيد - المذكور في التعريف السابق - هو البائع سيكون هو المشتري. ولو كان الشيك لإجل التسجيل في الحساب، كالمسطر، ولم يمكن سحبه نقداً، إحتاج بيعه إلى عمل أضافي لكي يسجل في حساب المشتري بدلاً من حساب البائع.
أقول : وأكثر هذه الأمور إنما هي من قبيل الأنظمة القانونية التي تحرز بها المصارف مصالحها. وليس لها أثر شرعي. وإنما نشير فيما يلي إلى ما يرتبط بالحكم الشرعي. فإن القبض والدفع بالشيكات التي تقبلها المصارف أمر صحيح كالنقود نفسها، ويؤدي سائر الأغراض الشرعية, كإداء الدين والخمس والزكاة وغيرها. ويتبعها الحكم المربوط بالمالية من حيث كونها من الملك الشخصي أو مجهول المالك أو حق الإمام عليه السلام أو الفائدة المصرفية أو الحساب المكشوف أو غيرها. فإن لكل واحد منها وغيرها من الأموال أحكامها الخاصة بها, سواء كان الدال عليها هو النقد أو الشيك أو أي شيء آخر.
وحيث علمنا في المسألة رقم [1296] أن المصارف ليس لها شخصية معنوية ما لم يأذن الحاكم الشرعي بتصرفها، إذن فملكيتها للأموال غير ثابتة، وإنما تعود الملكية الحقيقية إلى أصحاب رأس المال, ذوي الشخصيات الحقيقية وملكية المودعين. ومن هنا كان تداول المصرف بشخصيته المعنوية للأموال بدون الشرط المذكور، على شكل نقد أو شيكات أو كمبيالات أو غيرها، ليس له صفة شرعية.
وأما بيع الشيك بإقل من قيمته أو اكثر، فهو راجع إلى بيع الأموال التي تدل عليها بأموال أكثر منها أو أقل. وهو محل إحتياط وجوبي بالترك. وخاصة إذا كان الرصيد الأساسي للمصرف هو الذهب فعلاً. ومن هنا كان لا بد في تبادل العملات من تساوي القيمتين تجاه الذهب بقيمة يوم العقد أو ساعة التبادل, ولا تجوز الزيادة من أحد الطرفين، بأية عملة كانت. فإن كانت أية زيادة من أحد الطرفين دالة على زيادة الذهب فيه، تكون رباً محرماً. وإن كانت العملة من نوعين أو لدولتين وجب تساوي المدفوعين معاً بالنسبة إلى الذهب في قيمة يوم التبادل على ما قلنا. فلو زاد أحدهما على ذلك كان حراماً. وهذا كله لا يفرق فيه بين ما دل على المالية مما تقبله المصارف, سواء كان نقداً أو شيكاً أوكمبيالة أو بطاقة مصرفية أو أي شيء آخر.
وأما تعدد المصارف ووحدتها، فهو أمر قائم في المجتمع فعلاً، فقد يعتبر المصرف فرعاً لمصرف آخر، وهو معنى الوحدة بينهما. أي إنهما يعتبران مصرفاً واحداً من الناحية الأقتصادية أو المعنوية. وقد يعتبر المصرف مصرفاً مستقلاً عن مصرف آخر إقتصادياً ومعنوياً, حتى إنهما يتبادلان التعامل والسحب والإيداع والفوائد، كشخصيتين معنويتين مستقلتين. وهذا لا يكون من الناحية الفقهية جزافاً، بل الإستقلال هنا له أحد سببين لا ثالث لهما :
السبب الأول : الإستقلال بتعدد المالك أو المالكين لراس المال، فيما إذا كان المصرف شخصياً لا حكومياً. فتكون ذمة المصرف عبارة أخرى عن ذمة مالكيه، وهي ذمم متعددة إعتيادياً. وقد سبق أن أمثال هذه المصارف إن تعاملت بالربا كان التعامل معها حراماً. وإلا فلا.
السبب الثاني : الإستقلال بإعتبار إذن الحاكم الشرعي بالتعدد. وهو الذي يرجع له الإذن بالتصرف بالأموال المجهولة المالك.
فإن لم يكن هذان السببان موجودين، كان ترتيب الأثر فقهياً على التعدد وإستقلالية المصارف عن بعضها مشكلاً.
وسواء تحقق أحد السببين وقلنا بالتعدد أم لا. فإن ثروة الفرد وممتلكاته لا تتعدد بتعدد الإيداع في حسابين أو اكثر في مصرف واحد أو في مصارف متعددة، بل ستكون كل الإيداعات ذات حكم واحد شرعاً، ما دامت لشخص واحد. كما في إداء الدين أو الخمس أو الزكاة أووجوب