في حقيقة القضاء
القضاء هو الحكم في فصل الخصومة بين المتخاصمين. والمنتج اما لثبوت دعوى المدعي او لثبوت انكار المنكر. كما قد ينتج حلا وسطاً بين المترافعين , بان يأخذ كل منهما بعض ما يدعيه من الحق .
والفرق بين الحكم القضائي والفتوى عدة امور :
الامر الاول : ان الفتوى عبارة عن بيان الاحكام الكلية المستنبطة من ادلتها التفصيلية , من دون نظر إلى تطبيقها على مواردها الجزئية. في حين ان الحكم القضائي ناظر إلى التطبيق خاصة.
الامر الثاني : ان الفتوى يشترط فيها الاعلمية على الاحوط [ ] , على حين لا يشترط ذلك في القاضي. بل يكفي فيه مطلق الاجتهاد.
الامر الثالث : ان الفتوى لا تكون حجة الا على من يجب عليه تقليد المفتي بها. في حين ان الحكم القضائي يكون حجة على المترافعين حتى بدون ان يكونا مقلدين للقاضي , او لم يكن احدهما كذلك.
الامر الرابع : ان فتوى المجتهد لا تنفذ على مجتهد آخر ,ولو كان دونه في الاعلمية , اما القضاء فهو نافذ على كل أحد , ويجب على كل فرد ترتيب الاثر عليه من ناحيته , حتى لو كان مجتهداً او قاضياً بدوره. سواء كان طرفاً للدعوى ام لم يكن.
واعلم ان المجتهد من علمائنا له ثلاث مناصب شرعية : الفتوى والقضاء والولاية. وتشترك الولاية مع الفتوى في اشتراط الاعلمية على الاحوط [ ] , كما تشترك مع القضاء في كونها ذات موارد جزئية وانها لا يجوز نقضها ويجب العمل عليها على كل احد حتى المجتهدين والقضاة. بخلاف الفتوى.
وتختلف الولاية عن القضاء , مضافاً إلى اختلاف دليلها الفقهي , بان حكم الولاية غير منوط بالتخاصم, في حين ان الحكم القضائي لا مورد له غير التخاصم. فحكم الولاية قد يكون في مورد التخاصم وغيره ، وقد يكون لحفظ المصلحة العامة . ولا مورد في القضاء للمصالح العامة ولا للاموال العامة, كالخمس والزكاة والخراج. مع انها كلها مشمولة لاحكام الولاية. والحكم بالولاية لغير المعصوم لا يبقى نافذاً بعد موته ما لم يقره الولي الجديد. بخلاف الفتوى, باعتبار جواز البقاء على العمل بها , وكذا الحكم القضائي بعد صدوره.
وقد يشترك المورد بين القضاء والفتوى , كما اذا تنازع الورثة في الاراضي فادعت الزوجة ذات الولد الارث منها , وادعى الباقي حرمانها , فالخلاف هنا فتوائي. فان تحاكما إلى القاضي الشرعي وجب عليه أن يحكم بفتوى الاعلم , فان قضى بالميراث او عدمه, وجب على الآخر الأخذ بقضائه حتى لو كان مخالفاً لتقليد الورثة.
وقد تشترك الفتوى والولاية , فقد يكون الحكم بالولاية على خلاف الفتوى, في حدود مساعدة الدليل على ذلك. وقد يكون موافقا لها. فمثال المخالف: فتوى المشهور : ان المحتكر يجبر على البيع ولا يسعّر عليه. فقد تقتضي المصلحة العامة التسعير بالولاية. ومثال الموافق : تعيين الخراج او الجزية على مجتمع معين او بكمية معينة , مع انها ثابتة اصلا بالفتوى.
وقد تشترك الولاية والقضاء في مورد مرافعة واحدة. كالتخاصم فيما اذا كان الواقف مالكاً أو لا. فاذا ثبتت الملكية بالقضاء امكن تعيين متولي او ناظر على الوقف بالولاية.
ومما يمارسه القضاة قضائياً عادة , مع انه في الحقيقة من أمور الولاية : تعيين القيم على القاصرين لصغر او سفه او جنون او عوق , ونحو ذلك. ومما يمارسه القضاة عادة , مع انه من امور الفتوى : تعيين وجوب النفقة او مدة الحضانة او كون الطلاق خلعيا , ونحوها. كما ان القضاة عادة يمارسون امورا غير مربوطة بالفتوى ولا بالولاية ولا القضاء. بل يجوز لكل أحد متفقه القيام بها , كالنكاح والطلاق والبيع وغير ذلك.
هذا , وتشترك الثلاثة في كونها واجبات كفائية اذا قام بها العدد الكافي سقط عن الآخرين , والا عوقب الجميع , سواء لم يقم بها أحد , او قام بها عدد دون الكفاية. ووجوبها هذا يتجلى في مراحل :
المرحلة الاولى : وجوب ايجاد من يصلح لهذه المهمة او تلك. وعدم جواز ترك المجتمع مهملا من هذه الناحية , لا في الحال ولا في الاستقبال. وذلك بتصدي جماعة من الناس لتحصيل المقدمات والسبب الموصل إلى الاجتهاد ونيل الاعلمية.
المرحلة الثانية : وجوب تصدي من يجد في نفسه الاهلية لذلك , مع حاجة المجتمع إلى ذلك. وحرمة حرمان المجتمع مما يستطيع ان يؤديه من خدمات , وما يحققه من مصالح. وهذا ثابت في كل الامور الثلاثة السابقة. في حين ان من ليس اهلا لها فانها تكون محرمة عليه , فهو يلقي نفسه وغيره في التهلكة في الدنيا والاخرة , فقد يحرم الجميع كما في غير المجتهد , وقد يحرم البعض كما في المجتهد غير الاعلم , حيث يجوز له القضاء دون الفتوى والولاية :
المرحلة الثانية : وجوب الاجابة على الاسئلة وحل المشاكل الجزئية , سواء على مستوى الفتوى او القضاء او الولاية. وعدم جواز السكوت ولا في مورد واحد. ما لم يشك الانسان في مدركه الشرعي او يكون مشمولا لعنوان ثانوي رافع للتكليف , كالتقية والحرج.